فضاء ثقافي يحتفي بجماليات الأدب العربي. نقدم في هارموني الحروف دراسات نقدية، نصوصا سردية (قصص قصيرة وتجريبية)، وشعرا مرهفا. نغوص في فلسفة الأدب وتحليل الخطاب لنصنع محتوى خالدا. انضم إلينا لتبادل الرؤى في واحة الفكر والإبداع.

الوسم | هديل الديب

مجلة هارموني الحروف


إسمي هو "سعيد"، ولست أدري حقيقةً ما مقدار السخف الذي يتمتع به ذاك الشخص الذي أطلق عليّ هذا الإسم.

لم أعرف هويته يوماً، تماماً مثلما لم أعرف معنى السعادة أيضاً ولم تدرك هي بدورها لي طريق، يقولون أن لكل إمرء من اسمه نصيب، حسناً، هذا ليس أنا!.

فتحت عيناي على هذه الدنيا التي لم أطلب يوماً أن أكون جزءً منها، فوجدت نفسي أكبُر بين الجدران القديمة الشاحبة لهذا المكان الكبير، ركضت بين أروقته، ولعبت بين شجيرات حديقته الصغيرة، لاحقت القطط الصغيرة التي كانت تتسلل إلى المبنى وداعبتها، لم تكن "صفية" المشرفة تحب رؤيتي أركض وألعب هنا وهناك، كانت دوماً تصفني بالمزعج والبليد وتمطرني بوابلٍ من التوبيخ والضرب كلما سمحت لها الفرصة، في الواقع لم تكن تحب رؤيتي أساساً، لطالما اعتبرني العاملون هنا مصدراً إضافياً للتعب، ربما لأنني ولدت بحالة خاصة جعلتني مختلفاً عن باقي الأولاد هنا فجعل من أمر رعايتي أكثر تعقيداً، أعلم أنني كنت طفلاً مُتعباً أحياناً لكنني لم أقصد أن أرهق أحداً، لم أختار أن أولد هكذا!، "بعقل غير مكتمل النضج" كما يقول الطبيب المسؤول هنا، أذكر في أحد الأيام أنني سمعت صدفةً صفية وهي تشتكي لزميلتها منيرة بأن "أولاد الحرام" هؤلاء سيفقدونها عقلها، وقبل أن تنتبها لوجودي ركضت عائداً لحجرتي المشتركة مع عددٍ من الأولاد، وظلت كلمتها هذه تدور في ذهني رغم أني لم أفهمها ذاك اليوم، حتى اكتشفت بمرور الأيام أن المجتمع سيحرص أشد الحرص على توضيح معنى هذه العبارة لي وتذكيري بحقيقتها طوال حياتي، كبرت وبدأت أفهم بعض الأمور، أهمها أن لا أب ولا أم لي بأنني جئت لهذه الدنيا بسبب "الحرام"، وأنني لن أستطيع يوماً تغيير هذه الحقيقة مهما حدث، أن هذا الوسم سيظل يرافقني للأبد، فهمت بعض الأمور البسيطة الأخرى عن أساسيات ومفاهيم الحياة، لكن كثيراً من الأمور في الحياة عجزت عن فهمها أو التعامل معها بسبب قدراتي العقلية المتواضعة، أصبحت رجلاً لكني ما زلت لا أجيد سوى التفوه بعبارات محدودة، غدوت قليل الكلام منطوٍ على نفسي، على الرغم من أني حاولت أن أخرج من هذا المكان وأشق طريقي مثلما فعل أقراني لكني لم أنجح في هذا، ففي كل مرة خرجت فيها للشارع ولاحظت طريقة نظر الناس لي "خوفهم أو ازدرائهم أو حتى ضحكات سخريتهم" حينما أحاول العثور على عمل أو حتى التنزه بين الطرقات كأي إنسان آخر كنت أشعر بمدى اختلافي عنهم وأني لن أكون يوماً جزءً من حياتهم، فأعود خائباً مسرعاً إلى المؤسسة التي رعتني والتي أصبحت الآن أعمل فيها كعامل نظافة، وعملي هذا كان مجرد عذر كي أبقى مختبئاً هنا بعيداً عن الناس في الخارج فلا أضطر أن أحتك بهم وينالني ما قد ينالني منهم من الألم، وفي أحد الأيام، تلك الأيام التي يتغير فيها التاريخ فحسب، جاءت "نورة"، فتاة كانت تبدو لطيفة وطيبة وكانت تبحث عن عمل هنا، لم تنجح في إيجاد وظيفة في المرة الأولى لكنها نجحت في ترك شعور غريب بداخلي منذ رأيتها، لم أعي ما هو ذاك الشعور تحديداً، كان يبدو كمن يرفرف في صدره سربُ من الفراشات، استمرت نورة في التردد على المبنى عدة مرات وكانت تبدو عاقدة العزم على أن تعمل هنا، وفي النهاية تمكنت من العثور على عمل في المطبخ، وفي الحقيقة وجودها هنا كان باعثاً للسرور في قلبي، انتبهت نورة بعد عدة أيام لوجودي ولاحظتني لحسن الحظ، وفي كل مرة تراني فيها كانت ترسم بسمتها اللطيفة تلك على مُحياها، فينتفض جسدي خجلاً ويزهو قلبي لسائر اليوم، مرت الأسابيع وبدا وكأن العالم يريد أخيراً أن يعقد الصلح معي ويجبر خاطري، عرضت علي نورة الزواج، لم أصدق يوماً ولم يمر حتى على أكثر خيالاتي جموحاً أن تبادرني نورة وتبادلني الحب، ظننت أن مثلي لن يتسنى له يوماً أن يدرك معنى المحبة والعاطفة، لكنني وافقت على الفور وطرت فرحاً لسؤالها، كذلك كان كل من يعرفني في المركز ولا زال يكن لي ولو القليل من المشاعر الإنسانية النبيلة، وفي غضون أشهر، قمت خلالها بالتوفير من معاش الدولة الذي أستلمه شهرياً ومرتبي الزهيد وأيضاً مساعدات أهل الخير الذين يتبرعون للمبنى بين الحين والآخر أن أجمع ثمن تكاليف عرسٍ بسيط يدخل البهجة لقلب نورة، الفتاة الفقيرة البسيطة التي تشبهني، استأجرنا شقة صغيرة في أحد المناطق الشعبية وكانت أيام زواجنا الأولى فيها جميلة، مضى الوقت ثم ما لبثت الحياة حتى أن عادت وكشرت لي عن أنيابها مجدداً، وقامت بصفعي على قلبي كي تيقظني من حلمي البديع قصير العمر هذا، بدأت نورة بالتغير علي، لم تعد نورة التي عرفتها وتزوجتها منذ عام، باتت لا تحتملني وتصرخ علي وتأنبني على كل هفوة غير مقصودة تصدر مني بحكم حالة عقلي المعطوب، وما كانت تضيع فرصة من فرص سويعات الغضب كي تهددني بها بالرحيل فأسكن وأرتجف كطفلٍ صغير خائف أمامها من فقدان أمه، تنهرني وتأمرني بالذهاب لغرفتي "التي تجبرني أن أنام فيها بعيداً عنها كي لا أسبب لها الازعاج"، كنت أنام وأنام ساعات طويلة من النهار وكأنني أهرب من واقعي المرير الذي لم تزده نورة إلا مرارةً بقسوتها وغلظة قلبها، حتى أنها باتت تعنفني جسدياً برمي الأشياء علي حينما تفقد صوابها بسبب ضغوط الحياة، وكنت لا أقاومها كي أسمح لها بالتنفيس عن غضبها والبقاء معي لعلها تعود لطبيعتها اللطيفة ولعلها تحبني مجدداً، تمر الأيام ولا شيء فيها يتغير، لم أعد أعمل بسبب ضعف في البصر أصابني، وكنا مكتفين بمعاش الدولة الذي تتصرف فيه نورة بمعرفتها الخاصة، ما عادت تقدم لي وجبات طعام تسد جوعي بشكل كافٍ طوال اليوم لكن من أنا كي أعترض؟، "كثر الله خيرها أنها قبلت بأن تتزوج من شخص مثلي"، وظلت نورة كما هي، تقضي معظم النهار خارج البيت تعمل وعندما تعود لا تكلف نفسها عناء النظر إلي أو الحديث معي وكأنني مجرد عبء رمته الحياة على كاهلها، وفي أحد الأيام بينما كنت أغط في النوم في غرفتي كعادتي، سمعت صوتاً غريباً يصدر من خارج الغرفة، لم أعي ما هو تحديداً، بدا وكأنه مزيج بين التمتمات والضحك، نهضت عن فراشي وقمت بفتح الباب، الصوت يصدر من غرفة نوم نورة، تسارعت نبضات قلبي لأنني شبه أدركت ماهيته، وما أن فتحت الباب ورأيت نورة زوجتي بين ذراعي رجل غريب كان يرتدي زياً عسكرياً، حتى غلى الدم المتدفق في عروقي، لم أستوعب الصاعقة التي أرى، ولم يسعفني لساني الثقيل وكلماتي المبهمة "التي لطالما خاطبت بها الناس ولم يفهموني" على قول شيء، لكن ما أدركته في هذه اللحظة بأن هذا هو "الحرام" ، الذي لطالما كان الغصة التي في صدري والعثرة التي في حياتي وسبب بؤسي وتعاستي، ووجودي المقيت في هذه الدنيا، صحت بجنون وصوت عالٍ  صياح أشبه بالعويل:


"حرام".. "حرام".. "حرام"!!


حاولت أن أهجم عليهما وأن أضربهما بأي شيء وقعت عليه يداي، وحرقة صدري بسبب إدراكي أن نورة كانت تخونني وتستغل زواجي بها كغطاء كي تفعل الحرام حرقة لا تُحتمل وأفظع من أن يحتملها عقلي البسيط، لم أقوى على تحريك ذاك القذر الضخم، فحاولت فتح نافذة الغرفة كي أصرخ للجيران وأفضح أمر هذه المخادعة الحقيرة، إلا أن "أخمص السلاح" الذي ضربني به عشيقها كان أسرع من صرخاتي الجريحة، تسمرت في مكاني من أثر الألم الذي اجتاح رأسي، وشعرت بالسائل الدافئ الأحمر الذي يتدفق بقوة منه يتساقط على وجهي، لم تمر سوى دقائق حتى وقعت على الأرض وكانت آخر صورة أراها قبل أن تكتسح العتمة مد بصري، هي نظرة نورة لي، لم تكن نظرة خوف علي أو شفقة "كما كنت آمل"، بل كانت نظرة اشمئزاز، اشمئزازٍ فحسب.!


مر خبر وفاتي على وسائل التواصل الاجتماعية كمجرد خبر مأساوي آخر على البشر الغارقين بانشغالات حياتهم، بينما قام البعض بتحويله إلى نكات، وتأليف "قفشات" عليه بعد أن ألفت أرملتي سيناريو سخيف لا يدخل عقل طفل عن طريقة وفاتي أثناء تحقيق الشرطة معها، كي تتسترعلى الفضيحة، ولا تتعرض هي وعشيقها للمشاكل، وكعادة أي "ترند" يعبر على سكارى "الفيسبوك" لم يدم خبر وفاتي أكثر من عدة أيام شبع خلالها الناس بسرعة من لذة النميمة والسخرية، ثم تلاشى تماماً كما تلاشيت أنا وتاريخي السقيم القصير على هذه الأرض، وهاهم الآن يبحثون عن أخبارٍ أخرى كي يتناقلوها ويتسلوا بها بعدي، أنا "سعيد" الذي قضيت عمري بأكمله كارهاً لحقيقتي ولسبب وجودي في هذه الدنيا، سعيد الذي مضى حياته هارباً من الناس مختبئاً من قسوتهم وهمزاتهم ولمزاتهم، أنا الشريف البريء من الوسم الذي طُبع على وجهه منذ أن فتح عيناه لأول مرة في حياته، ها أنا الآن أغلقهما للأبد لذات السبب الذي أوجده، لذات السبب الذي جعل حياته القصيرة مريرة، في عشية ذاك اليوم الأخير من حياتي، لم يكن هناك شهود على جريمة أرملتي وعشيقها بحقي، ولا على تعنيف المشرفين في دار الرعاية لي سابقاً في طفولتي وتشويههم لها، ولا على تنمر أطفال الشارع وقسوة البشر معي، لكن الشهيد الأوحد والأعدل والأبقى هو من كان شاهداً على كل ألمي وهو من سيعيد لي حقي يوم العرض من كل من أذاني.

✍️هديل الديب، كاتبة فلسطينية

هناك 3 تعليقات: