تفيد
الدراسات الشعرية و البلاغية على أن أرسطو ما كان ليُعرَف في حقل النقد الأدبي
لولا كتابه "فن الشعر" الذي مثل لحظة تأسيسية أسهمت في توجيه الفكر
النقدي، وإلهام النقاد في بيئات معرفية وثقافية مختلفة نحو تنظيم ممارسة النقد،
وتحويل الانطباع الفردي الإديولوجي إلى معرفة نسقية قابلة للتقعيد. فقد أصبح نصًّا
مرجعيا في تاريخ النظرية الأدبية، باعتباره بداية تشكل الوعي النقدي الممنهج.
كما
أدى صدور الكتاب في سياق الفلسفة الإغريقية منح النقد الأدبي سندا معرفيا جعل
الأدب موضوعا للدراسة العقلانية. فقد أرسى أرسطو مفاهيم مركزية كالمحاكاة،
والتطهير، ووظيفة الشعر و جوهره، وهي مفاهيم تحولت إلى أدوات تحليلية عمّرت لقرون
طويلة، وامتد أثرها إلى النقد الغربي الوسيط، ثم النهضوي، وصولًا إلى الفلسفة
الجمالية الحديثة.
ولم
يقف تأثير هذا الكتاب عند حدود الثقافة اليونانية، بل تجاوزها إلى الحضارة العربية
عن طريق الترجمة والشروح في القرن الثالث الهجري، ولا سيما مع تلقي ابن رشد في كتابه القيم " تلخيص كتاب الشعر" الذي منح الكتاب قراءة إصلاحية قريبة من أصول
البلاغة العربية. وقد نتج عن هذا التفاعل تأسيس خطاب نقدي عربي جديد ظهر في صيغ
مثل مفهوم "الصدق الفني"، ومحاولات الربط بين الشعر والواقع الاجتماعي
في التراث.
لقد
تفاعل البلاغيون العرب مع الفلسفة اليونانية عموما، ومع كتابي "فن
الشعر" و "فن الخطابة" على وجه الخصوص. وقد استفادوا من المنطق
الأرسطي في صياغة الحدود والتعريفات، كما اعتمدوا في تصنيف مؤلفاتهم منهجا قريبا
من التبويب اليوناني. ويظهر هذا بوضوح في كتاب "نقد الشعر" لقدامة بن
جعفر.
وتبدو
صلة قدامة بكتاب فن الشعر جلية في ربطه بين الشعر والأخلاق على نحو يُذكِّر بأرسطو؛
إذ يجعل صفات الرفعة والضعة والشرف والخسّة أحكاما تتعلق بالمادة التي يُنظم الشعر
منها. نورد في هذا السياق ما نصّه "وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان، من
الرفعة والضعة، والرفث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح والعضيهة، وغير ذلك من المعاني
الحميدة والذميمة: أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية
المطلوبة..."¹ و يُظهر هذا بوضوح تأثر قدامة البَيِّن بالمنطق الأرسطي.
كما
يرى قدامة أن الرثاء يدخل في باب المديح بوصفه غرضًا أعم يقوم على اعتبار المرثي
من أهل الأخيار، والأفاضل، ويظهر ذلك جليا في قوله "إنه ليس بين المرثية
والمدحة فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك، مثل: كان وتولى وقضى نحبه
وما أشبه ذلك، وهذا ليس يزيد في المعنى ولا ينقص منه، لأن تأبين الميت إنما هو
بمثل ما كان يمدح به في حياته، وقد يفعل في التأبين شيء ينفصل به لفظه عن لفظ
المدح بغير كان وما جرى مجراها، وهو أن يكون الحي وُصف مثلاً بالجود، فلا يقل: كان
جواداً ولكن بأن يقال: ذهب الجود او فمن للجود بعده ومثل: تولى الجود وما أشبه هذه
الأشياء..."²
ويبلغ
ذلك التأثر ذروته عند حازم القرطاجني في كتابه منهاج البلغاء وسراج الأدباء، فقد
عقد مبحثا مطولا للحديث عن فعاليتي التخييل والمحاكاة في صلب تعريفه للشعر
"الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب على النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره
إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل
له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيأة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة
شهرته، أو بمجموع ذلك..."³
ويضيف
في سياق بيان جودة الشعر "فأفضل الشعر ما حَسُنَتْ محاكاتُه وهيأتُه، وقَوِيَتْ
شهرتُه أو صدقُه، أو خَفِيَ كَذِبُه..."⁴
كما
قسّم الشعر إلى طريق الجد وطريق الهزل، في قوله "فأما طريقة الجد فهي مذهب في
الكلام تَصْدُرُ الأقاويلُ فيه عن مروءة وعقل بنزاع الهمة والهوى إلى ذلك. و أما
طريقة الهزل فإنها مذهب في الكلام تصدر الأقاويل فيه عن مُجونٍ وسخف بنزاع الهمة
والهوى إلى ذلك..."⁵. وهو التقسيم نفسه الذي يُورِدُه أرسطو عند حديثه عن
الأنواع عندما ربط التراجيديا، والملحمة بالجد، و الكوميديا بالهزل.
وإجمالا، أسهم تلقي كتاب أرسطو "فن الشعر" في الثقافتين اليونانية والعربية في
خلق طبقات متعددة من الفهم بعضُها اقترب من النص الأرسطي، واقتبس منه مفاهيم
المحاكاة، والتخييل، والتطهير، وبعضها الآخر أعاد توظيفه ضمن أصول البلاغة
العربية، فحوَّله إلى إطار نقدي جديد يستجيب لجوهر الدرس الشعري ووظيفته، وهو ما
يؤكد أن العرب لم يكونوا مجرد ناقلين للنص، بل مارسوا عليه تأويلا إبداعيا كشف عن
حاجاتهم المعرفية، كما كوَّن لديهم القدرة على تَمثُّل الفكر الفلسفي وفق مِنظارٍ
بلاغي. ومع ذلك فإن مراجعة التراث النقدي تظهر أن تلقي الكتاب لم يخلُ من سوء
الفهم عن مقاصده الأصلية، بِباعِثِ مشكلات الترجمة أو اختلاف البيئة الشعرية.
وهذا
ما يدعو في تقديري إلى أن قيمة "فن الشعر" في الثقافة العربية ليست في مطابقته
للنص اليوناني، ولا في صحة أو خطأ فهم النقاد العرب له، بل في الطريقة التي أصبح
بها النص فضاءً لتوليد الأسئلة، ولبناء خطاب نقدي متجدد... فالاختلافات التي
أحدثتها الترجمة، والقراءات التي قام بها قدامة وابن رشد وحازم كما سلفَ ذكره
وغيرهم... كل ذلك لم يكن عائقًا للنقد العربي، بل كان محرِّكا لولادة نظريةٍ نقديةٍ
عربيةٍ تبحث عن خصوصية تميزها، وتختبر قدرتها على الحوار مع الفكر الإنساني.
وهكذا
فإن الاستقصاء في المنطق الأرسطي يكشف في النهاية أن النصوص لا تخلد لمجرد اتساقها
الداخلي، بل لكونها تمتلك قابلية متجددة للعبور إلى سياقات جديدة وإعادة البناء
وفق مقاربات معرفية وثقافية ذات منطلقات
متنوعة. وهو ما جعل كتاب أرسطو علامة مؤسسة في تاريخ النظرية الأدبية النقدية،
داخل الثقافة اليونانية كما داخل النقد العربي القديم، بكل ما حمله هذا التفاعل من
إبداع، واستيعاب، وسوء فهم، وتجاوز في آن واحد.
¹
ص4 - كتاب نقد الشعر - صفات الشعر.
²
ص33 - كتاب نقد الشعر - نعت المراثي.
³ ص21 - كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء
⁴ ص22 - كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء
⁵ ص105 - كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق