كانت خيوط الشمس ترسل قبلاتها الأخيرة إلى من رست سفنهم على شواطئ الأرض المنسية، وترسم ظلالا باهتة لأناس جعلتهم الحياة بدون ملامح، كلما حاولوا استعادة القليل من بريقها اختفت بين تجاعيدهم.
ومع اقتراب لحظة الغوص الأخير سارع من يعيش على فتاتها إلى وكره، كأنه في سباق معها، لم يكن "با عمر" بمعزل عن هؤلاء بل أكثرهم حرصا على تواجده بمنزله قبيل الوداع الأخير.
في ذلك اليوم كان "با عمر" يهرول لتأخره بثواني قليلة عن المعتاد، غير مبال بمن يصادفه، لم يكن عارف بشكل الطريق الذي يسلكه يوميا، فقد كان يمر مطأطأ الرأس لا يلقي السلام على إنسان ولا يردها على أحد...
في مسيره المملوء بالفراغ يقتطف بين الفينة والأخرى لحظات متقطعة يدردش فيها مع بعض الحيوانات التي تعترض طريقه غير خائفة منه كأنه صاحبها الذي غير جلده ولم يغير روحه، كان تفكيره يتيه في غياهب مطبات الحياة، وإن عاد فإنه يخترق نفس الطريق طمعا في الوصول إلى فراشه... الفراش الذي يتحمل جسده بعد نهار شاق يقضيه في لملمة قوت يومه ممن شعروا بالحاجة إلى التصدق.
على غير عادته استرعى انتباهه ذلك اليوم كوكبة من الأطفال الصغار ذكورا وبينهم بعض شقائق النعمان، لم يدقق في أشكالهم، فقد تعرض لخيانة بصره، اعتصر عيناه، أعجب بشغفهم وابتساماتهم، لم يعرف الغالب من المغلوب ولكنه توصل في ظل ضجيجهم أن كل همهم كان الحصول على الكرة أو تسجيل هدف أو شيء آخر في نفس يعقوب، اقترب منهم تجول بنظراته المهترئة بينهم... ابتسم... لم يشعر حتى وجد بعض الدمعات تخترق شعاب التجاعيد التي رسمها الزمن على خدوده.
انبعث شيطان كبريائه ولى وجهه يمنة ويسرة لم يكن يراه أحدا... زفر... مسح بكمه الأبيض الذي صار رماديا ما ترسب على ضفاف من يرى بها بؤس الحياة، كرر العملية حتى يتأكد من نضوب مائها، لم تتقبل عيناه ما لحق بها من رماد، صارت ترسل إليه إشارات احتراق لم يفهم المقصود طبطب عليها بتمعن قل احتراقها... شهق... وواصل المسير...
في تلك اللحظة التي وقف فيها اضطراريا تغير كل شيء بداخله لم يظهر شيئا على محياه سوى تلك القطرات التي عبرت عن احتراق كل ما كان مزهرا بين ثناياه أو كان يتظاهر بذلك، يتقدم خطوة ويلتفت، صورهم الباهتة نقشت ببهتانها في ذاكرته لم تساعده الشمس التي سئمت من إضاءتها لأناس لم يقدروا يوما قيمتها، ولكن أصواتهم ظلت تتردد في داخله تؤرقه تدفعه إلى الالتفات لضبط الصور مع الصوت لم يكن الأمر كما يريد...
كانت أصابع رجليه القاسية تأبى الاستقرار بالصانديلة الجلدية التي غطى طبيعتها ركام الأيام فصارت متجهمة الوجه تعبر عن واقع صاحبها، وبقع الاتساخ ترسم أحواضا للأصابع تمنع انزلاقها إلى ما وراء الحدود، أظافرها مملوءة بعبث الزمان ينظر إليها برأفة أحيانا وكثيرا بالاشمئزاز، أما صاحبها فلم ينتبه لها يوما لأنه لم ينحن ليرى ما يجري بالسافلة.
يمخر عباب الطريق بانكسار وكلما اقترب لقبر حياته الذي يستر عيوبه كما كان يسميه كان شعور النفور منه يجتاحه ولا يخلف سوى دخان العودة لمشهد رآه مرارا لم يحرك فيه ساكنا.
- ماذا وقع اليوم؟
يتنفس بصعوبة، يضغظ على صدره لا يعرف جدوى تلك الحركة ولكنه يفعل، يحاول تهدئة نفسه، لا يتذكر سوى الحقيقة الوحيدة الموجودة بالكون، صداع ألم ببعض أجزاء جسده لا يعرفه مركزه، ولكن العياء فرض نفسه، فكلما تقدم خطوة جلس لاستعادة أنفاسه، لم يكن "الصاك" الذي يحمله وبه ما يسد رمقه قبل إخلاده للنوم ثقيلا حتى يؤثر عليه يتساءل:
- ما الذي وقع؟
كان الجواب واضحا ولكن لم يفهمه؟ يعرفه ولكن لم يستطع ترجمته، كان الليل قد أسدل ستاره عندما وصل.
لوح بيده إلى سرة بجيب جاكيطته الداخلي استخرجها، كان الظلام سيد الموقف سلم الأمر ليده تتحسس، بحث عن مفتاح بابه لم يكن الأمر بصعوبة أعاد السرة إلى مكانها تأكد من استقرارها، لوح به إلى قفل الباب لم يكن تحسسه كاف لإصابة الهدف حاول عدة مرات يظن أحيانا أنه قريب من التسجيل وأحيانا كثيرة يظن أنه ابتعد عن المرمى كثيرا... في تلك اللحظة كان شعور الندم على التأخر يزوره لا يفارقه.
ولج متأففا، ترك الباب مفتوحا، وقف لأول مرة في العتبة، أطال النظر في الفراغ الذي يسمع أنينه، لا شيء يستدعي الدخول سوى البونجة التي تنتظره والوسادة التي تحملت كثيرا معاناته، بالمدخل بصيص من النور يصل من الضوء العمومي.
لأول مرة يدقق النظر في الأرضية رغم هشاشة الرؤية، تاه فكره مع بنت الجيران اختلط الواقع بالخيال عنده في تلك اللحظة كانت مكفية على ركبتيها تجفف الأرضية لأول مرة ينعكس لمعان الأرضية على عينيه بعدما كان دائما يتعاطف معها ويتمنى راحتها.
سواد حالك يعيق رؤية الغرفة، كانت الضبابية تخيم عن الوضع تقدم خطوة إلى الأمام تعثر بكيس بلاستيكي سمع انكسار زجاج قد يكون كاسا أو قنينة لم يعر الأمر اهتماما تقدم خطوة أخرى يتحسس بيده كل ما يوجد أمامه ليجد شمعة يشعلها ليضيء عتمة المكان ولو قليلا، نسي مكانها كانت الذاكرة لا تسعفه على تذكر أشياء كثيرة.
رفع رأسه للأعلى محاولا تذكر مكان وضعها بعد محاولات فاشلة قال:" في الصباح وأنا ألملم شتات الغرفة لم تصادفني الشمعة"، لم يقتنع بجوابه، يقف هنيهة، لم تسعفه الذاكرة، اختلط عليه الأمر، قد يكون وضعها في مكان ما ونسي، وقد يحدث أنه لم يغير مكانها، ولكنه يستدرك:" إذا لم أغير مكانها فستكون فوق الطاولة برجها المعتاد".
يسمع نداء الأم على ابنتها نداء استفزه وقض مضجعه حاول تجاهل الأمر لم يكن الأمر بيده، ظل جوابها "أنا آتية" يتردد في أذنه.
فكر كثيرا لحظتها في الاستنجاد بالطفلة، تردد، ليست المرة الأولى التي سينادي عليها لمساعدته، ولكن اليوم...، تهاطلت عليه الأسئلة، وشعر بندم كبير على لحظات كانت والدته توصيه بالزواج... الزواج الذي لم يفكر فيه يوما.
كان عياء النفس قد أرهقه، شهق بعمق وزفر بعنف، التفت خلفه كان نسيم بارد يتسلل بهدوء لم يعجبه ليونته، لوح بيده بعنف إلى الباب أغلقه سمع صدى صوته بين الجدران، وراح باندفاع يبحر في هواء لم يعد ينفع في شيء.
بعد محاولات قاسية من التحسس بالتراب وفوق فراشه وبين الأواني المتراكمة على الطاولة المهترئة، استشاط غضبا، حمل البطانية المركونة أسفل فراشه ورمى بها في مكانها، لم تكن له القدرة على فعل أي شيء آخر غير هذا، لحظتها سمع صوت ارتطامها بالأرض، تبسم قليلا، تأكد أنها كانت مختبئة بين ثنايا البطانية، انحنى ثانية يبحث غير بعيد عن الفراش... لم يبتسم لإيجادها لأن ما خلفه البحث عنها كان تجربة قاسية.
لم يكن البحث عن الولاعة أمرا مستعصيا وهي التي لم تفارق جيب سرواله، لا يدخن فقد امتنع عنه منذ سنوات حين زار الطبيب إثر نزيف أنفي حاد وأخبره بضرورة الابتعاد عن التدخين، ولأنه يخاف الموت فقد لبى النداء.
كانت الولاعة التي لا تفارق جيبه هي المخلف الوحيد من حقبة التدخين، وعندما يطلبها أحد منه لا يتردد في مدها له، تجده يسرع البحث عنها في جيوبه مبتسما، كأنه بهذا الفعل الذميم يكفر عن بعض ذنوبه.
أشعل فتيل الشمعة أطال النظر فيها وهي تسكب دموعها على حافة الطاولة، يتساءل عن سبب احتراقها؟ وإن كانت تعرفه هل ستواصل الاحتراق من أجله؟ لم يجد الجواب الملائم فكر في الخيط المشتعل الذي ينبع من أحشائها وهو الذي يهلكها، تذكر بعض أفراد عائلته والمتاعب التي تسببوا له فيها، أمعن النظر في السمعة مرة أخرى وتساءل:
" هل تدرك الشمعة أنها تهلك بسبب خيطها؟ " صمت هنيهة وأردف :"وهل للشمعة قيمة بدون خيط؟"
جمع ما تبقى له من الشتات، ارتمى في فراشه، مدد جسده النحيل على البونجة، التفت يسرة ناظرا بدون شهية إلى "سندويتش" عشائه، تجاهله، أطفأ الشمعة جانبه كالأمل الذي احترق ما تبقى منه هذا المساء، وراح يستعيد شريط ذكرياته بحلوها ومرها، وهو المتأكد أن الجمال قد غاب اليوم مع ما عاشه... ابتسم ونام.... نام إلى الأبد....

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق