أطبق الليل ستاره على المدينة ،دوى صوت الرصاص في الخارج،علا ضجيج النازحين الهاربين من الموت اجتاح أذنها عويل الدبابات و زلزل قلبها ، حتى صار لديها رغبة جامحة في الهروب ، إلا أنها آثرت أن تستجيب لصراخ أطفال الجوعى أولًا و تُعدّ لهم وجبة خفيفة تُزودهم بالطاقة الكافية كي يستطيعوا السير مسافات طويلة أثناء نزوحهم لمنطقة آمنة ، كانت تعرف أن لا وجود لمكان آمن في المدينة المحاصرة، لكنها مع ذلك كانت تتشبث بالوهم ..
وضعت الخبز على السفرة، نسقت الصحون
تنسيقاً يروق لصغارها ، تجمهروا حول الطاولة فرحين، ذهبت لتحضر الماء من المطبخ
محاولةً أن تملأ الحرب بالحياة، أن تتظاهر أمام أبنائها بأن هذا الليل سيمضي، وأن
الفجر سيأتي كما اعتادوا كل يوم، لكن الفجر لم يأتِ، بل جاءهم موتٌ بارد، ببطونٍ
خاوية وأصابعَ مرتجفة من وقع قرعات الحرب على القلوب الصغيرة .
قذيفةٌ قاسية اجتاحت بيتهم ، انهال
جدار البيت الغربي على الصغار، علت أصوات
صرخات مكتومة تحت الركام ، خرجت الأم من المطبخ على وقع ضجيج الحرب ،لم تستوعب
المشهد للوهلة الأولى ، كانت تريد أن تصرخ، أن تجري نحوهم، لكن قدميها تجذرتا في
الأرض، كما لو أن الكارثة جعلت جسدها ثقيلاً حد العجز.
جثَت على ركبتيها، خارت قواها وهي
تردد أسماءهم واحداً تلو الآخر، وكأنها تستدعيهم من الموت، لكن ما من مجيب ، ارتد
صدى صوتها في زوايا الدار الملطّخة برائحة البارود، وتلاشى في الفراغ.
كانت يدها المرتجفة تبحث عن وجوههم
بين الركام ، تحاول نفض غبار الموت عن ملامحهم، كانت تأمل أن يستيقظوا من سباتهم
الأبدي ، لكنها لم تلمس سوى صمتٍ بارد، و وجوه مغبرة كأنها حجارة بردت في حضن
الليل ،أخذت تزيح الحجارة عن أجسادهم المتناثرة ، هذه جدائل إسراء الناعمة و هذا
وجه أمجد الجميل و هذه يد مها الصغيرة ، رفعت رأسها إلى السماء، غارقةً في بحيرة
من العدم والضياع، تناجي الله سائلة: بأي ذنبٍ سُفكت دماؤهم ؟ بأي جرمٍ
صاروا أكفانًا في قعر دارهم ؟
أرادت أن تصرخ، لكن الحزن خنق صوتها،
فخرج موؤودًا، مجردَ أنينٍ يشبه نحيب الريح في أزقة المدينة المهجورة.
تذكّرت كيف كانت تودّعهم إلى المدرسة
بابتسامات معبقة بالحب و الخوف في آنٍ
واحد ،لم يكن خوفًا من الجوع، ولا من المرض، بل كان خوفاً من غدر الزمان ، من
الظلال المتربصة في الأزقة، من أصوات الرصاص التي تخترق الأبواب قبل الأجساد ،
كانت تعاني من هوس الاختفاء المفاجئ ، من نومة أبدية لأحدهم دون رجعة ،كانت لفرط
حبها لهم تخشى فقدهم .
بكت بحرقة صغاراً لم يعرفوا طعم الحياة كما يليق
بها ، تذكّرت كيف كانت تخيط لهم ثيابهم ، تسرّح شعرهم كل صباح، ، كيف كانت تطعمهم
و تُعلمهم ، كيف كانت تلقي عليهم الوصايا كلّما خرجوا إلى المدرسة، كأنها كانت
تودّعهم كل يوم وهي لا تدري.
أمسكت بيد مها ، ضمّتها إلى صدرها،
محاولةً أن تنقل إليها ما تبقى من روحها، لكن يدها كانت باردة .. باردة
جداً كليلٍ بلا قمر.
أخذت تتحسس وجه أمجد، تمرر يدها على وجنتيه
الباردتين المخضبتين بالدماء ، رفعت جدائل إسراء نحو وجنتيها تداعب نعومتها ،
أغمضت عينيها للحظة و هي تتخيل حياتها بدونهم ، شعرت بروحها تغادرها رويدًا
رويدًا، كأن الحزن قد استحال خنجرًا مسمومًا انغرس في أعماقها ، فقد حوّل القتلة
أمومتها إلى رماد، شعرت بدوارٍ هائلٍ يجرّها نحو السقوط ، وضعت يدها مرتكزة على ما
تبقى من الجدار ، تشبثت بما بقي منها ، غدا في قلبها حزنٌ يُربك اللغة،
يفتتُّ القلب ، يجعل الهواء من حولها أثقل
من أن يُستنشَق،
حزنٌ أشبه بفراغٍ ينهش أي معنى للحياة.
اقتربت الآليات من البيت أكثر و علا
صوت قذائفهم ، و صياح طائراتهم ، و ارتفع صوت الجنود من دباباتهم يدعون سكان
المنطقة إلى الخروج من بيوتهم ، مانعين سيارات الإسعاف من الاقتراب من المكان ،
أمسكت بثوب مها ، شدّته إليها بقوة، كأنها ترفض أن ينتهي الأمر عند هذا الحدّ،
كأنها تريد أن تعيد الزمن إلى الوراء، أن تحميهم بجسدها، بصدرها، بعينيها، صرخت
بحزن يملأ الآفاق :"لماذا لم تأخذوني معكم ؟ " لكن
الزمن لا يعود، والموت لا يفرّط بغنيمته.
قررت الخروج من البيت مستجيبة لأوامر الجيش،
متعكزة على بقاياها ، تاركة خلفها بيتًا صار مجرد أطلال بعد أن كان يعجُ بالحياة،
و جثثًا صغيرة تعلقَ قلبها بها ، بعد الآن ستغدو ظلاً يائساً تتراكم عليه الذكريات كغبارٍ على رفوف النسيان .
كان مساءً ثقيلاً، مشبعاً بالموت، تابعت سيرها
خارج المنزل حافية إلا من القهر،و هي تفكر كيف ستطوي هذه الطرق وحيدة ..
ثمة دبابة كانت تتصدر الشارع ، حولها جنود بكامل
عتادهم ، علا صوت رصاصهم أكثر ، سقطت جسدًا هامدًا ، نظرت إلى السماء تتابع خطوات
صغارها صاعدين إليها ، ابتسمت ، أغمضت عينيها ، ثم استسلمت لصمت يعانق الموت.
إيمان زهدي أبو نعمة
فلسطين غزة

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق