تتّصل صديقتي بي فتدعوني إلى رحلة مشيٍ في الطّبيعة كتلك التي دأبنا على المشاركة فيها منذ سنواتٍ خلت، تسوقُ لِيَ المُغريات لكي أوافق بينما أسوقُ لَهَا المبرّرات للتّملّص من قبولِ عرضِها. تقولُ لي بعد أن يئست من إقناعي: "لا بدّ أنّكِ تضعين نظّارتكِ على عينيك!" تجاوزَت ضحكتي وأضافت: "أنتِ بالنّظّارة تبدين حكيمةً أكثر من اللّازم، اخلعيها، وهاتي المجنونةَ التي أعرفُها!"
بعد انتهاء المكالمة، خلعتُ النّظّارة فعلًا، ونظرتُ إلى وجهي في المرآة وأنا أشعرُ بالإطراء. يدغدغُني أن ينعتَني أصدقائي بالمجنونة، فالجنون وحده هو ما يُشعِرُني أنّني على قيد الحياة! ربّما هي على حقّ، أنا بحاجةٍ لنفَسٍ عميقٍ، لكن لا أظنّني أطمعُ بصحبة أحدٍ... وجدتُني بتلقائيّةٍ أرمي شالًا صوفيًّا على كتفي، أنتعلُ حذائيَ الرّياضيَّ الأبيضَ وأغادرُ المنزلَ سيرًا على الأٌقدامِ إلى وجهةٍ لم أحدّدها. أمامي تسعون دقيقةً قبل أن يعودَ أولادي من المدرسة، لنرَ أين تستقرُّ بي قدماي.
أمشي خفيفةً لا تثقلُني حقيبةُ العمل، ولا أكياسُ المستلزمات المنزليّة، لا تشغلُ بالي المسافةُ التي عليّ أن أقطعَها ولا الإفادة التي قد أجنيها. لا أخزّن ألواح الشّوكولاتة في جيبي، ولا أحملُ زجاجة الماء. الضّروراتُ تتلاشى مع كلّ خطوةٍ. لا أسجّلَ المشاهداتِ على طولِ الطّريقِ، لا ألتفتُ إلى لونِ السّماء، ولا أدقّقُ بأوراقِ الخريفِ ومحنة الأشجار، أمشي كأنّني عمياء، أمشي كأنّني ألبّي نداءً خفيًّا، أتركُ كلَّ شيءٍ ينهارُ خلفي: أعمالي، تواصلي، الأمان الواهم الذي أستقيه من هنا وهناك، الأصوات، الأفكار، حتّى هواياتي أشعرُ بلحظةِ المشيِ أنّني لا أنتمي إليها. لا أحاولُ أن أشرّحَ مشاعري لأفهمَ ما يعتمرُ قلبي، أكتفي أن أشبّهَ الأمرَ بالدّوار الذي يخلّفه البنجُ قبل العمليّة الجراحيّة.
أمشي بحرّيّة، أنسلخُ عن اسمي وهويّتي، أنعطفُ نحو طريقٍ وعرةٍ يسلكُها الرّعاةُ، لا أتوقّعُ أن ألتقي بأحدٍ ولا حتّى بنفسي. لحظةٌ ثمينةٌ لا أريدُ فيها شيئًا من العالم الذي أطويه بين يديّ وتحت قدميّ. ربّما العطايا قد تأتيني وافرةً بعد أن أغادرَ هذا البياضَ المُطلقَ النّاصع بالتّخلّي، لكنّ انتظارَ المكافآتِ مقابلَ توضيح الرّؤية تسويةُ التّجّار، لا بضاعةُ الأحرار.
أمشي بلا ألمٍ، ينتابُني شعورٌ طافحٌ بالامتلاء بالذّات، وبالتّأكيد، لرائحةِ الصّنوبرِ التي تملأ رئتيّ بين هذه الجبالِ دورٌ أساسيٌّ في الأمر. للجبالِ في وجداني مكانُتُها الخاصّة ورهبتها الفريدة. الجبالُ هي أوّلُ ما تبحثُ عنه عيناي في الصّباحِ، معها أتماهى، منها أولدُ بعدَ كلِّ عناءٍ، إليها أعودُ بعدَ كلّ خيبةٍ، فيها آمنُ على نَفسي من التّشتّتِ والضّياع، وعلى قممِها ألملمُ مسيري نحوي وتُربّتُ على غُربَتي روحي متنفّسةً نورًا خالصًا يتجدّدُ، متمدّدةً في الشّساعةِ اللامتناهية، متواريةً في الضّبابِ أن تسجنَني الحياةُ اليوميّةُ في قفصٍ من ذهبِ التّمنّي. أمشي وأنا أعرفُ إلى أين أنتمي ومن هم أهلي الحقيقيّون ومن أصحابي في المسيرِ، أمشي وأنا أتحسّسُ قدر ما تتيحُ الوسائلُ البشريّةُ وطنًا تحجبُني عنه محدوديّتي...
أمشي بطيئةً، أفهمُ "نيتشه" عندما يقول أنّ "كلّ الأحكامِ المُسبقةِ تأتي من السّرير"، أمشي وأنا في رضًا غريبٍ عن العالمِ الذي لا أثقُ به، في تسامحٍ أشدّ لينًا من تنهّدي المستمر، مع منغّصاتِ السّلام، أفكّرُ بسليمان الذي سمعَ توجّسَ النّملِ من خطواتِه، تصبحُ أذني أشدّ حساسيةً لصوتِ قدميّ؛ ما الذي أدوسُهُ في هذا العراء؟ أستعيدُ قولَ أمجد ناصر: "أمشي وقدماي ملفوفتان بخرقةِ الأولياء القُدامى ..." أقولُ في نفسي أنّ بين القدمِ والأذنِ علاقةَ طربٍ لمن أصغى، فلا عجب من الفنّانين الذين يطلقون العنانَ لمواهبِهم حفاةً في لحظة انسجامٍ واتّحادٍ كاملَين مع الذّات، لعلّهم يسمعون بأقدامهم موسيقى الكونِ التي نتحسّسُها نحنُ معشرُ الكسالى في حناجرهم. أمشي وشيءٌ ما في داخلي يترنّمُ بلحنٍ عزيزٍ كأنّني ألتحقُ بركبٍ ما يدوسُ الإرهاق وينسى أن يتذمّرَ من التّعب.
أمشي بلا إيقاعٍ، لا أصطدم ولا أتعثّر ولا أسرع، أمشي بثراء، كلّ خطوةٍ ملكٌ لي وحدي، وكلّ خاطرةٍ تردني إزاءَ الطّبيعةِ المُحيطة ملكٌ لي وحدي كذلك. هذا الصّمتُ العظيم، اللّغة الكونيّة الموحّدة، خطابٌ مباشرٌ بيني وبين ما أدركُهُ بحواسّي لا يطّلعُ عليه أحدٌ سواي. أبتسم، بل الأصحّ أنّني لا أقاومُ رغبتي ببكاءٍ يشوبُه الحنينُ، أفكّر، أستعيدُ ذكرياتي، أتجنّبُ مؤخّرًا الثّقة في أحلامي، لكنّي أثناءَ المشي لا أقمعُها، تسيرُ جنبنًا إلى جنبٍ معي، أقيّمُها، أنتقدُها، أتعاركُ معها ثمّ من تلقاءِ نفسِها تتموضعُ بهدوءٍ حيث يجبُ أن تكون، أفكّرُ كم أنا محظوظةٌ بمعيّة الله. أفكّرُ بكلّ النّعم التي أملكُها، كانت أمنياتٍ لم أعرف كيف أرتّبُها، الله فعل. أفكّر بالأبواب التي تنفتحُ لي على مصراعَيها، لم أقرعها، الله فعل. أفكّرُ بالجنونِ والتّهوّر كم مرّة أسلماني لِلَهيبٍ لا طاقةَ لي به، وكانت يدُ الله تنقذُني في كلّ مرّة! لو كان لي أن أتخيّلَ الله لحظةً، لتجرّأتُ على الإحساس بأنّه لا ينفكّ يهزّ رأسه أسفًا من حماقاتي واندفاعي، أو ربّما تبسُّمًا من دهشتي الحائرة وارتمائي بين يديه بعدَ كلّ مُصيبةٍ. صبره عليّ وأنا أتعلّمُ ببطءٍ، يعلّمُني الصّبرَ على نفسي والعالم من حولي، وأيّ حُبٍّ أطالبُ به نفسي اتجاه هذا الخلق الجميل كردٍّ لمعروفِ صاحبِ الجمالِ الأسمى!
أمشي متأمّلةً هذا الصّفاءَ البهيّ. هذه الجبالُ لي، مخلوقةٌ لأجلي، بيني وبينها موعدٌ أزليٌّ، وما تطّلعُ عليه من سرّي، سيكون من نصيبٍ عابرٍ من بعدي. يا لهذه المفارقة: أدركُ الآن أنّني لا شيء، نسمةٌ خفيفةٌ قد تحملُني إلى مكانٍ مجهولٍ، لكنّي أؤمنُ أنّني في اللّحظة نفسها قد أعيشُ للأبد في موطني المعلوم! أرتمي في الدّوار وألامسُ سجيّتي البهيجة، وأعرّفُ هذا الفعل بأنّه طفولة الكون وطفولة الإنسان معًا، طفولة ساطعة شاملة مطلقة وتامّة.
حالةٌ لن تدوم، ولا أظنّ أنّه ينبغي لها ذلك، يرتفعُ آذانُ العصر، أستطيعُ سماعَه. أعودُ أدراجي إلى البيتِ مُسرِعةً، وفي طريقِ العودة، عادت قدماي بي إلى حياتي اليوميّة: أسلكُ طريقًا آخر مزدحمًا بالفلّاحين والنّاسِ البسطاء، أحيّيهم فردًا فردًا وأنا أهرولُ تفاديًا للأحاديث التي قد تؤخّرني. وقبل وصولي ببضعةِ أمتارٍ، صادفتُ السّيدة ج جارتي في الحيّ المجاور في فناء البيت. إنّها امرأةٌ سيّئة الطّباع، سليطة اللّسان، حادّة المزاج، لا يسلمُ من تكبّرها مارّ. لكنّ المفارقة أنّها مُرهفةٌ، وأنا أحبّها وأحبُّ حزنها وشرودها، ستتعافى يومًا ما، أو هكذا تشي حديقتها المتلألئة بالورودِ والأزهارِ من كلّ نوعٍ ولونٍ! ألمحُها أحيانًا تمشي مسافاتٍ طويلةً تكلّمُ نفسَها وتبتسمُ لأطيافٍ غير مرئيّةٍ. ما علينا، يعلمُ الجميعُ أنّ أكثر ما يؤلمُها ويستفزّها أن تلمسَ حتّى النّحلات أزهارَها لشدّة ما تعتني بها. دون استئذان، مددتُ يدي من فوق السّور وقطفتُ من كلّ نوعٍ طالته يداي وردةً، ورفعتُ صوتي أشكرُ زوجَها الذي "أذن" لي بذلك (رآني ولم ينهرني)، زوجها نفسه الذي تخشى غضبه وتتهذّب في حضرته مُكرهةً، وتركتُ وجهها يغلي وعيناها تتقلقلان وأنا أتوجّه إلى منزلي والرّضا يمشي في قلبي وعلى وجهي!

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق