"الأحلام المسكوبة على الرمال لا تجف... لكنها لا تُرتشف أيضا"
استفاق عمر على ضوء شمس خافت
يتسلل عبر جدران زجاجية تمتد حوله إلى ما لا نهاية. المكتب أمامه فخم، سطحه اللامع
يعكس وجها بدا مختلفا، أكثر نضجا، أكثر ثقة. يرتدي بذلة سوداء أنيقة، وربطة عنق حمراء
كلون الكرسي الجلدي خلفه. شاشة ضخمة أمامه تتراقص عليها الأرقام، الأسهم صاعدة،
والأرباح تتكاثر بجنون، كأن المال يتكاثر بالانقسام الخلوي.
أخذ نفسا عميقا، ثم قال بصوت واثق:
"سنمضي قدما في الصفقة. أريد التقرير النهائي على مكتبي هذا المساء"
السكرتيرة بجانبه ابتسمت برقة،
ابتسامة لم يكن متأكدا إن كانت إعجابا أم مجرد قناع احترافي.
"كما تأمر، سيد عمر"
لكنه لم يكن يعرف ماهية الصفقة.
حاول أن يتذكر، أن ينبش في رأسه، لكن ذاكرته كانت كثقب أسود يبتلع كل شيء بلا
رحمة. تلبّد ذهنه بالضباب، بدت اللحظة كحلم تعرف أنك كنت فيه، لكن تفاصيله تسربت
من بين أصابعك كحبات الرمل. وبينما كان يهم بمتابعة حديثه، سمع صوتا غريبا، كأن
أحدهم يهمس من داخل جمجمته:
"القهوة!
الإسفنج! اشرب الماء لتستيقظ"
توقف الزمن للحظة. نظر حوله، لكن
المكان كان صامتا كقفص زجاجي. فجأة، ارتج الجدار خلفه، ظهر فيه شرخ رفيع، تمدد
بسرعة، كان الضوء يحاول شق طريقه بالقوة إلى الداخل. الشاشة الضخمة أمامه امتلأت
فجأة بأرقام متساقطة، تهاوت الأسهم، وامتلأت الشاشة بكلمة واحدة "مُلغاة".
"لا... لا... الصفقة"
امتدت يده لتثبيت الشاشة، لكنها تفككت تحت أصابعه إلى شظايا من زجاج وأرقام، ثم سقط.
استفاق على الرمال. حرارة الشمس تنهش جلده بلا شفقة، العرق يغرق جبينه، ورائحة القهوة المسكوبة تختلط برائحة الملح والبحر. بجانبه صينية مقلوبة وإبريق، أكواب زجاجية متناثرة كصدف صغيرة، والسائل الأسود يتسرب إلى الرمال، يختفي كما اختفى حلمه.
عندما فتح عينيه، كان الضوء مشعا، كأن أحدهم سلطه على عينيه. لم يستطع الحركة. صدره يرتفع ويهبط كسمكة ألقيت على الشاطئ، أنفاسه متقطعة، حلقه جاف، والمذاق في فمه... مرارة غريبة، كأنها مذاق الصفقة التي لم تكتمل.
"أعمي
عمر! نوض! الشمس غتحرقك"
يد صغيرة تهزه بعنف. رفع رأسه
بثقل، كل شيء حوله بدا وكأنه يتحرك ببطء غير طبيعي، كأن العالم يمر عبر فلتر مشوه.
الصوت، الحركة، حتى دقات قلبه، كلها غير متزامنة.
تساءل بارتباك، بصوت يشبه صوت شخص
خرج توا من غيبوبة: أين كنت؟
الفتى الصغير أشار إلى الصينية
المقلوبة: "الحمد لله على سلامتك، ضربة شمس... الناس كيتسناو قهوتك." لكنه
لم يكن يسمع، كانت الشاشة لا تزال في رأسه. الأسهم المتهاوية، كلمة
"مُلغاة" تطارد جفونه كلما أغلق عينيه. كان لا يزال يشعر بملمس المكتب
الزجاجي تحت أنامله، بصوت السكرتيرة الناعم، برائحة الأوراق النقدية.
ثم رأى نفسه في انعكاس كوب مكسور.
لم يكن يرتدي بذلة سوداء، لم يكن هناك كرسي جلدي، لم يكن هناك مكتب. فقط قميص مبلل
بالعرق، وعينان محمرتان من الشمس.
شيء ما في داخله انكسر. أو ربما شيء ما في داخله استفاق.
جمع الأكواب المرتجفة بيدين
مرتعشتين، ثم تردد للحظة، كأن جسده كله يرفض الحركة. ثم سمع صوتا في رأسه، صوت
أمه، متشابكا مع الريح المالحة: "يلا
رجعتي بلا فلوس غنهرسلك العظام"
ارتعش جسده. استفاق تماما. قفز كولب، التقط الصينية، وسوّى وضعها. التفت إلى الفتى بجانبه، قال بصوت مشحون
بشيء جديد، شيء لا يعرف إن كان قوة أم استسلاما: سأكمل... سأبيع.
ثم بدأ ينادي، بصوت كان في
البداية خافتا، ثم ازداد قوة، كأنه يصرخ ضد العالم كله: "قهوة ساخنة، إسفنج
طري". تحرك بين المصطافين، لكن في داخله، كانت الشاشة لا تزال تعرض الصفقة، وربما،
فقط ربما... لم تُلغَ بعد.

قلم إبداعي ذهبي يخط بحبر الأحلام ويمزج بين الواقع والخيال.
ردحذف