فضاء ثقافي يحتفي بجماليات الأدب العربي. نقدم في هارموني الحروف دراسات نقدية، نصوصا سردية (قصص قصيرة وتجريبية)، وشعرا مرهفا. نغوص في فلسفة الأدب وتحليل الخطاب لنصنع محتوى خالدا. انضم إلينا لتبادل الرؤى في واحة الفكر والإبداع.

كيف يُعيد السرد القصصي تشكيل دماغ الطفل؟ قراءة نقدية في أثر الحكاية على الإدراك | يوسف الشقوبي

مجلة هارموني الحروف


إن الدماغ يحب الحكايات لأنها توفر روايات واضحة تخترق عوامل التشتيت، كما تساعدنا القصص على التركيز، خاصة في هذا العصر الذي يصعب فيه جذب انتباه الآخرين أكثر من أي وقت مضى. هنا يمكننا أن نتساءل حول تأثير السرد القصصي على دماغ الطفل. لقد أُجريت مجموعة من التجارب التي اهتمت بهذا الموضوع، من بينها التجربة التي قام بها فريق بحثي من جامعة طوكيو الطبية وطب الأسنان في اليابان بقيادة "مايوكي يابا"، حيث درسوا تأثير السرد القصصي على دماغ الأطفال باستخدام التحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء القريبة، ودرسوا تأثيرات قراءة الكتب المصورة.

أُجريت الدراسة بموافقة لجنة أخلاقية في جامعة فوكوشيما الطبية. في التجربة، تم اختيار قصص وكتب معينة لكل مشارك بناءً على عمره واهتمامه، وتم التأكد من أن المشاركين لم يكونوا على دراية مسبقة بالمحتوى. قُسِّمت الجلسات إلى جلستين: الأولى غير مألوفة حيث لم يكن للأطفال خبرة مسبقة بالقصص والقراءة، والثانية مألوفة حيث تعرف الأطفال مسبقًا على أسلوب السرد والقراءة. النتائج التي توصلوا إليها أظهرت حدوث تغييرات دماغية: أثناء قراءة الكتب المصورة، انخفض تدفق الدم في الفص الجبهي للأطفال المألوفين مقارنة بغير المألوفين. كما ظهرت تغيرات كبيرة أثناء السرد القصصي بغض النظر عن الألفة. النشاط الدماغي أثناء السرد القصصي كان أكثر مقارنة بقراءة الكتب المصورة. وبالتالي، كان النشاط الدماغي أقل في القراءة المألوفة، بينما ظل مرتفعًا أثناء السرد القصصي، مما يشير إلى أن السرد يتطلب مستويات أعلى من التركيز. لذلك، تشير النتائج إلى أن السرد القصصي يحفز النشاط الدماغي بشكل أكبر من قراءة الكتب المصورة، خاصة بعد تعود الأطفال على الآباء. وبالتالي، تدعم هذه النتائج الفرضية التي تشير إلى أن السرد القصصي يعزز التفكير النشط ويحافظ على الإبداع لدى الأطفال.[1]
وبالتالي، يساهم السرد القصصي في تطوير دماغ الطفل وجعله أكثر قابلية للإبداع وخلق عوالم مختلفة ومتعددة. و الفضل يعود في هذه الدراسات " لسرديات ما بعد كلاسيكية   narratology  post classical  ، التي ساعدت على تقوية الروابط بين السرد و الذهن Mind، و النص و القارئ ، وعززت القاعدة التجريبية للدراسات السردية، من خلال تبئير الاهتمام على العمليات الذهنية و التفسيرات العصبية، ووصف السيرورات الإدراكية المعرفية ، وزيادة الاهتمام بدور السرد في تكوين الذكاء وفي نشاط الذهن، وبقدرته الكبيرة على إغناء نظريات الذهن ، وفهم عمليات بناء الذات self-construction. وبفضل المعالجة الإدراكية المعرفية للسرد لم تعد القصص و الروايات تمثل فقط هدفا تأويليا يتطلب مهارة ذهنية للمؤولين، بل أيضا غدت موارد للتأويل- لأن السرد التخييلي يفضي بنا لإنشاء آثار مرأوية أعقد من التي توجد في الحياة العادية الحقيقية – وتمرينا ذهنيا لا غنى عنه لفهم الذات و الآخرين، وصناعة المعاني لتجربتنا، وإثراء لتجربتنا الذهنية، وتنمية وتوسيعا لقدرة عقولنا (أذهاننا)".[2]  

هكذا، فإن السرد القصصي يؤثِّر بشكل كبير في الموجاتِ الدماغية، خاصة إذا كانت المطالعة أو الاستماعُ إليه بشكل دوري ومعمق، حيث يساعدُ على بناءِ القدرةِ على التّركيز من خلالِ تتبّع الخيط النَّاظم للقصة، وتنشيط الدِّماغ من خلال ملءِ الفجوات التي تتخلَّل هذه القصة، والانتقال بعد ذلك من فهم الأفكار البسيطة إلى إدراك الأفكار المُعقّدة، وكلّ ذلك راجع إلى إثراء التّجربة الذهنية وتوسيع القدرة العقلية.


هوامش الدراسة:

[1]: Yabe, M., Oshima, S., Eifuku, S., Taira, M., Kobayashi, K., Yabe, H., & Niwa, S. (2018). Effects of storytelling on the childhood brain: Near-infrared spectroscopic comparison with the effects of picture-book reading. Fukushima Journal of Medical Science, 64(3).، بتصرف QUILLBOTتم ترجمته بموقع

تاريخ الاستلام: 25 أبريل 2018

تاريخ القبول: 21 سبتمبر 2018

[2] د.عبد الرحيم أخ العرب، " السرد و البيداغوجيا و الثقافة نحو سرديات ما بعد كلاسيكية مقاربة بينية".  الطبعة الأولى 2022، ص 23،بتصرف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق