كانت الصحراء قد بللتها أمطار غريبة، أمطار لم تكن
مثل سائر الأمطار. لم تكن لها رائحة حين تمزج بعطش التراب، ولا كانت تمنح الحياة
لمن تهطل في أراضيهم. بل كانت تلك الأمطار مزيجا من الملح والكافور، تضفي على
الأشياء في محيطها طابعا غير بشري، طابعا يذكر بالأزل، بالقديم البعيد.
في صمت الصحراء القاحلة، وفي مكان بعيد عن أي مظهر
للحياة، كانت هناك جثة لرجل، مرمية على الرمال الجافة. كان قد مات في لحظة يسودها
الغموض، ربما مات من العطش، أو بسبب جرح عميق ناتج عن معركة مع الوحوش. لا أحد
يعلم، ولا أحد كان يهتم.
مرت الأيام، وفي وقت من الأوقات أمطرت السماء أكثر
من تلك الأمطار الغريبة. عادت السماء فابتلعت الأرض في صمتها، ومن ثم انقلبت
السماء إلى رمادي قاتم، وأصبحت الرمال والرياح علامة على الخوف، تراقب الجثة التي
كانت مهجورة في قلب هذه العزلة.
ثم مرت السنوات. مرت عقود. ومرت قرون. ورغم مرور
الزمن، بقيت الجثة كما هي، لم تتغير. الجسد لم يتحلل، لم يتعرض للفساد، بل أصبح
كما لو كان معقما بفضل الأمطار التي هطلت عليها.
ومع مرور الزمن، غطى التراب الجثة تدريجيا. لكن، في
أعماق التراب، شعر الجسد بالدفء يمر عبر جسده. لم يكن الموت هو الذي منح الجثة هذا
الدفء، بل كان شيئا آخر يجعل الجثة تتساءل: "هل كان هذا هو ما كنتُ أبحث عنه
طوال الوقت؟".
كانت الجثة تنتظر شيئا غير ملموس وغير مقيّد، روحا
ما، ليتحرك الجسد الذي أصبح قطعة من الأرض.
وفي يوم آخر، حمل الموت إلى جوارها جثة جديدة، دفنت
بالقرب منها. جثة جديدة تحمل روحا كانت قد فُقدت. كانت جثة امرأة.
لا شيء في الصحراء كان يمكن أن يشير إلى هذا
اللقاء، لكن في مكان لا حدود له، في نقطة ضبابية بين الحياة والموت، بدأت الروحان
الجارتان تتواصلان.
لم يكن هناك صوت. لم يكن هناك حركة. فقط شعور بدائي
كان يلتف حول الجثتين. ما كان هناك حوار ترتبه الجوارح، بل هي لغة أخرى، لغة
الأعماق، لغة المعاني غير المقبوض عليها.
حوار لم يكن له بداية ولا نهاية.
مع مرور الأيام، بدأت الجثتان تتواصلان في صمت.
كانت الجثة الأنثوية تروي حكايات عن الحياة التي عاشتها قبل أن تصل إلى هذا
المصير. حكايات عن الأرض، عن الناس، عن الخيبات التي كانت تمر بها قبل أن تجد
نفسها في هذا المكان، في هذا الوضع المهزوز. وحكايات عن الشوق العميق لعالم لم يعد
موجودا.
أما الجثة الذكر، فقد كان يروي قصة موته، كيف وُجد
في هذه الصحراء، كيف مات وحيدا، وكيف كانت الأرض قد ابتلعته بشكل غريب، ولم يترك
وراءه أي أثر. كانت قصته غامضة، لكنها تحمل إحساسا بالتحرر من آلام الحياة.
ومع الوقت، بدأ الحديث يتغير بين الجثتين. لم يعد
مقتصرا على الأرض أو الناس فقط. بل عما كان مدفونا تحت التراب في ذواتهما.
لقد بدأت العاطفة، عاطفة بدائية، تنشأ بين الجثتين.
عاطفة لم تكن تشبه تلك التي كانت تُعاش في عالم الأحياء، بل هي عاطفة غسلتها أمطار
الدم، عاطفة تبحث عن الوجود في عالمٍ آخر، عالمٍ لا هو الحياة ولا هو الموت. كانت
تلك العاطفة بدائية، شرسة، مليئة بالأسئلة التي لا إجابات لها.
وكما تتشابك يدان في لحظة توتر خاطف، كما تتشابك
الأرواح في نقطة لا يمكن للعقل أن يعيها، كان هناك ما يربط بين الجثتين، تقارب
محموم يشعران به مع كل لحظة تمر. تقارب يجعل الجثتين تعيدان تشكيل وجودهما، وكلما
طال الزمن، زادت هذه العاطفة قوة وعمقا.
ذات يوم، عندما اشتد شعور العاطفة بينهما، شعرت
الجثتان بحاجة لا يمكن تجاهلها. الحاجة إلى شيء أكبر من الموت، شيء يمكن أن يعيد
لهما يُخرج لهما شريطا من الحياة مغطى تحت الأنقاض. ولكن، ماذا يمكن أن يكون هذا
الشريط الحي في عالمٍ لا يتسع للروح؟ وكيف يمكن أن تتحقق هذه الرغبة في مكان لا
يعرف الزمن؟
كانت الجثتان في معركة داخلية عميقة. معركة تنبثق
من قلب كل منهما. هل هما جثتان عابرتان في هذا الكون؟ أم أن هناك ما هو أكبر من
الموت يتسرب إليهما؟ أم أن هذا المكان هو مصيرهما الذي لن يغيره أحد؟
في النهاية، بدت الجثتان وكأنهما قد وجدتا سلاما
متفردا، سلاما بلا إجابات، بلا أي أمل في تغيير مصيرهما. لقد أصبحا كيانين يعيشان
في تجويف تلك الأرض، متداخلين مع ترابها، مع رمالها. ولكن، في أعماقهما، كانت
العاطفة التي نشأت بينهما لا تزال تنبض، تنبض في الفراغ، في اللاوجود، في الوقت الذي
لم يعد يمتلك معنى.
كان هذا هو كل ما تبقى.
✍️ مصطفى ملح، أديب مغربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق