فضاء ثقافي يحتفي بجماليات الأدب العربي. نقدم في هارموني الحروف دراسات نقدية، نصوصا سردية (قصص قصيرة وتجريبية)، وشعرا مرهفا. نغوص في فلسفة الأدب وتحليل الخطاب لنصنع محتوى خالدا. انضم إلينا لتبادل الرؤى في واحة الفكر والإبداع.

"موت مختلف": تشظي السرد وتلاشي الحدود بين الحياة والموت | جمال كريم

 

مجلة هارموني الحروف


حين يتقاطع الأدب مع الفلسفة، وحين يصير الموت مسرحا للوجود، يكون القارئ أمام تجربة سردية متجاوزة، حيث يصبح النص سؤالا ينزف أكثر مما يجيب. في "موت مختلف"، ينحرف محمد برادة عن مسار الرواية التقليدية ليمنحنا بورتريها سرديا يتشظى بين الذاكرة والتاريخ، بين الفردي والجمعي، بين الحاضر الذي يُكتب على صفحة الماضي والمستقبل الذي يحدق بنا من نوافذ الغياب.

الرواية، وإن بدت للوهلة الأولى تأملا شخصيا في الموت، فإنها ليست إلا مرآة تعكس تحولات الذات المغربية في علاقتها بالآخر، بالمنفى، بالزمن المهدور. إنها رواية تستنطق الراهن عبر ماضيه، تصوغ الأسئلة أكثر مما تطرح الأجوبة، تضع القارئ في مهب احتمالات لا نهائية، تمامًا كما يفعل برادة وهو ينسج نصه بوعي حداثي، يراوح بين الواقعي والتجريدي، بين الفكرة والصورة، بين الحلم وكابوس التاريخ.

التشظي السردي وتجريبية التلقي
في هذه الرواية، يتحرر السرد من خطيته التقليدية، ليتشكل في فسيفساء من المشاهد، الذكريات، التأملات، وكأنها شذرات من وعي يتداعى، ينهار، يعيد تشكيل نفسه في دوامة من التذكر والنسيان. برادة، هنا، لا يكتب رواية بقدر ما ينقش أثرا، نصا ينزاح عن النموذج الكلاسيكي ليغدو أقرب إلى مونولوج داخلي طويل، حيث يتداخل الخاص بالعام، ويتسرب الشعر إلى النثر، كأن الكاتب يسعى إلى إحياء الصوت الداخلي للشخصية، ذاك الصوت الذي يتيه بين الزمنين، بين الموت والحياة.

الموت كفكرة فلسفية ووجودية
برادة لا يقدم لنا الموت في بعده البيولوجي الصرف، بل يجعله تجربة شعورية متداخلة مع الأسئلة الكبرى للإنسان. إنه موت مختلف، ليس لأنه حدثٌ نهائي، بل لأنه إعادة تعريف للحياة ذاتها، لحضور الإنسان في العالم، لحقيقة أن الذاكرة وحدها هي التي تمنحنا امتدادا زمنيا بعد الغياب. هنا، يتمظهر الموت ككائن سردي حي، كفكرة تسري في جسد النص، تتلبس شخصياته، تزرع الشك في يقين القارئ، وتدعوه إلى إعادة التفكير في معنى النهاية.

التشابك بين الذاتي والجمعي
في كل فقرة، نجد أن "الأنا" الساردة ليست كيانا فرديا معزولا، بل هي كائن متصل بمحيطه، يتفاعل مع تحولات المغرب السياسية والاجتماعية والثقافية. وهنا تكمن عبقرية برادة في صياغة رواية ليست ذاتية بالمطلق، ولا موضوعية تماما، بل هي مساحة تداخل بين الفردي والجماعي، بين التجربة الشخصية والهوية الوطنية، بين الواقعي والرمزي.

لغة الرواية: بين التذكر والنسيان
يكتب برادة بلغة تنزف، لغة تقف عند تخوم الشعر، تُراوغ المعنى، تُكثّف اللحظة في استعارات متراكبة، كأن السرد يطمح إلى القبض على الزمن الهارب. إنها لغة مرآوية، تعكس هشاشة الذاكرة، وتجعل الكلمات جسورًا بين الماضي والحاضر.

"موت مختلف": الكتابة كفعل مقاومة والغياب كمادة للحضور
"موت مختلف" هي تشريح سردي لحالة وجودية، حيث تصبح الكتابة نفسها فعل مقاومة ضد النسيان. محمد برادة، هنا، لا يقدم لنا حكاية، بل تجربة، لا يروي لنا موتا، بل يعلمنا كيف نواجهه عبر الأدب، كيف نحيا رغم كل شيء، كيف نجعل من الغياب مادة للحضور.

إنها رواية تتطلب قارئا لا يستهلك النص، بل يتماهى معه، ينزلق داخله، يبحث عن ذاته بين سطوره، تماما كما يبحث محمد برادة عن المعنى في دروب الحكاية المتشظية.


✍️ جمال كريم، كاتب مغربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق