كان جالسا في مكتبه، يتأمل الورقة أمامه، ويحاول فك ترميز مقاله الذي اختار له عنوانا فحواه "مصير الكاتب بين الموت والجنون." يكتب، يمحو، يعيد الصياغة، ثم يتوقف، غارقا في التفكير، الليل هادئ إلا من ضجيج خافت اخترق صمته، قادما من الخارج. رفع رأسه، تثاقل من كرسيه، ثم اقترب من النافذة، الحي ساكن كما اعتاده، لا شيء يبدو غريبا، على زجاج نافذة المنزل المقابل، انعكس ظل رجل يمشط شعر امرأة، بينما ثلاثة أطفال يقفزون فوق السرير، مشهد مألوف يتكرر كل ليلة، منذ أكثر من سنة، طوقته الأسئلة عندما رآهم أول مرة، تساءل عن قصتهم، وعن سر هذا التكرار الذي يبدو كحكاية من الزمن، لكن مع مرور الوقت تخلى عن الأسئلة، عاد إلى مكتبه، ألقى نظرة على الأوراق، لكن التعب كان قد سلبه كل قدرة على التفكير.
أسند رأسه على الكرسي، وأغمض عينيه، ثم غفا، لكن لم يدم نومه سوى ساعتين قبل أن يوقظه عرق بارد أغرق جسده، زاره حلم غريب، امرأة مستلقية، نائم في حضنها، وأصابعها تلامس جبينه بحنو، شعر بأنها مألوفة، لكن قبل أن تنطق بأي كلمة، اضمحلت، هكذا بلا أثر، بلا صوت. جلس في فراشه، يحدق في العتمة، يحاول أن يتذكر أين رآها من قبل، هل كانت حلمًا سابقا؟ أم ذكرى حقيقية ضاعت في زوايا النسيان؟ قضى ما تبقى من الليل يبحث في تفسيرات الأحلام، بين كتب ابن سيرين ونظريات فرويد، لكنه لم يجد ما يرضي ارتباكه، ألقى الكتب جانبا، وسحب مسودة مقاله، راح يكتب ويمحو مجددا، يعيد المحاولة تلو الأخرى، حتى غرق المساء في ظلام جديد، ليحدث الأمر مجددا، سمع الضجيج، لكن هذه المرة كان أقوى وأكثر حدة، كأن شيئا انفجر، هرع إلى النافذة، لكن ما رآه كان كفيلا بأن يجمد الدم في عروقه، الغرفة في المنزل المقابل كانت فارغة، لا ظل للرجل، ولا للمرأة، ولا للأطفال الذين كانوا يقفزون كلما حل الليل. شعر برعشة تسري في جسده، التردد كاد يشلّ حركته، لكنه وجد نفسه يتحرك، يسير في الشارع المظلم، يقترب أكثر من المنزل المقابل، دفع الباب ببطء، دخل بخطوات مرتجفة، وجد الغرفة فارغة، تعمها الفوضى، باردة كأن الزمان توقف فيها. أجال طرفه فوقعت عيناه على الحائط، هناك لمح حروفا كتبت بخطه، تراجع إلى الوراء، وعينيه متسعتين من الدهشة، كيف؟ متى كتبت هذا؟ اقترب ببطء، وقرأ بصوت مرتجف:
"ستعود مرارا وتكرارا، لن تجدهم، ماريا ماتت... وحتى الأطفال."
ضربت الكلمات روحه كسيف مسموم، ماريا؟ الأطفال؟ من هؤلاء؟ حاول أن يستوعب، فجأة كأن بابا انفتح في ذاكرته. تدفقت الصور أمام ناظره النار، ألسنة اللهب تلتهم المنزل، سيارات الإطفاء تطوّق المكان، صرخات تعجز الوصول إليه، تجمد الدم في عروقه، ثم ضربه الإدراك كالصاعقة، ماريا كانت زوجته والأطفال كانوا أولاده، احترقوا جميعا بسبب إهماله، لم يغلق قنينة الغاز قبل أن يغادر البيت، جثى على ركبتيه، والدموع تنهمر من أحداقه، ألسنة النار لازلت تنعكس في عينيه، وتحرق ما تبقى من روحه، وهو على هذا الحال أحس بلمسة يد باردة حطت على كتفه، استدار مذعورا، وقف طيف ماريا أمامه، بقوامها الممشوق، وبعينيها الممتلئتين بالجرح الذي لا يندمل، رفعت يدها، وأشارت إلى أسفل الحائط، وجه طرفه إلى حيث أشارت، ليجد جملة أخرى،: "تأقلم، وإلا ستفقد صوابك."
أطال التحديق في الحروف، شعر بصداع حاد، ضغط على صدغيه، أغمض عينيه، وحاول أن يستجمع أنفاسه، لكن شيئا ما كان يتلاشى داخله، ذاكرته؟ أم وعيه؟ لم يعد متأكدا، رفع بصره مجددا إلى الحائط، لكنه لم يجد شيئا، لا الكتابة، لا أثر ماريا، ولا أثر للغرفة ذاتها، كان جالسا على كرسيه، في مكتبه، أمامه مسودة مقاله، وعنوان يلمع تحت ضوء المصباح: "مصير الكاتب بين الموت والجنون." حدق في الكلمات، ثم التفت ببطء إلى النافذة، على زجاج المنزل المقابل، انعكس ظل رجل يمشط شعر امرأة، وثلاثة أطفال يقفزون فوق السرير، حاول أن يتذكر من هم، لكنه لم يجد في ذاكرته شيئا سوى الفراغ.

Good luck
ردحذفGood job wish u all the best 🤍
ردحذفgood job ma dear
ردحذفGood job
ردحذف