في دنيا الأدب اليوم، تتزاحم الكلمات وتتنافس الحكايات على لفت انتباه القارئ، ولكن دائما هناك صوت مختلف، لا يصرخ ولا يهمس، بل يعزف. ينحت الحكاية كما يُنحت لحن، فتتناغم فيها اللغة مع الشعور، وتتماهى فيها الفكرة مع الإيقاع. ونحن في مجلة هارموني الحروف ندرك أن بين القصة والموسيقا خيط خفي، لا يرى، لكنه يحس، وفي هذا الحوار الخاص، نستضيف كاتبا استطاع أن يصنع لنفسه نبرة فريدة، نبرة تشبه عزف ناي قصبي، يجمع بين البوح والاختناق، بين النوستالجيا والحداثة. نتحدث معه عن مجموعته القصصية "جئتك بنبأ"، وعن رؤيته للكتابة كفعل موسيقي، وعن تجربته في النشر، ومشروعه الروائي، ورأيه في المشهد القصصي المغربي، ثم نختم بنظرة حالمة إلى "مجلة هارموني الحروف" كفضاء جمالي يحاول عزف سمفونيته الخاصة في زمن الضجيج.
بداية أستاذ بلال الخوخي المبدع يسرنا في مجلة هارموني الحروف أن نعبّر لكم عن إعجابنا العميق بتجربتكم الأدبية المتفرّدة، وبالخصوص بمجموعتكم القصصية الأخيرة "جئتك بنبأ" ببنيتها الفنية وتصورها الجمالي المغاير.
1. لو اعتبرنا كل كاتب موسيقيا، فما نوع الموسيقا التي تعتقد أن نصوصك تعزفها؟
كل نص هو مقطوعة لحالها، فأحيانا تلمس عزفا هادئا كسيمفونية أو افتتاحية موسيقية لإحدى أغاني أم كلثوم، وأحيانا تجد فيه اضطرابا وثورة كأن لاوجود لقواعد صارمة مثلما في موسيقى الجاز الحر، هي هكذا نصوصي كما أريدها أن تكون، منسابة بوعي داخلي وإيقاعات إما منتظمة وإما متوترة بين الأصوات وبين مساحات الصمت.
2. هل تعتقد أن الأدب يجب أن يكون متناغما مثل قطعة موسيقية، أم أن الفوضى والعشوائية جزء من جماليته؟
أؤمن بأن ما نراه "فوضى" في النص، قد يحوي في عمقه تناغما، فالفوضى المدروسة ليست نقيضا للانسجام، بل هي طريقته في التمرد على السائد، حتى في العلوم، أؤمن بنظرية الفوضى، التي انبثقت منها فكرة "أثر الفراشة"، لهذا، فالأدب أرض شاسعة خصبة، تعزف فيه الموسيقى المتناغمة، وكذا الموسيقى التي تبدو ظاهريا فوضوية.
3. لو كنت آلة موسيقية، أي آلة تظن أنها تعبّر عن شخصيتك ككاتب؟
قد أختار الناي، ناي القصب خصوصا، بصوته الذي يجمع بين النوستالجيا والجدة، بين البوح والاختناق. هو آلة تستطيع أن تحكي، وأن تئنّ، أن تختفي في الخلفية دون أن تفقد نبرتها الخاصة.
4. نبعث لك من مجلة هارموني الحروف بأحر التهاني بمناسبة صدور مجموعتك القصصية. ما "النبأ" الذي أردت أن توصله فعلا؟
أشكر لكم هذا الاحتفاء بمجموعتي، واهتمامكم بمستجدات ساحة الأدب.
إن "نبأ"ـي نظرة إلى الشقوق الصغيرة والكبيرة التي تنخر جسد الإنسان، في علاقاته مع نفسه والواقع، سيجد القارئ في "نبأ"ـي ما يشغل غريزة السؤال لديه، ويدفعه للانخراط في رتق الفتوق، أو فتق الرتوق.
5."جئتك بنبأ" جاءت بتصميم يشبه الجريدة. ما الذي ألهمك لاختيار هذا الشكل، وكيف يخدم هذا التصميم مضامين القصص؟
الجريدة تحمل طابعا عابرا ومؤقتا، لكنها في الآن ذاته تحتفظ بأثر الزمن، تتوالى أعداد الجرائد وتتعدد الأحداث، يقرؤها المتابعون فلا تكاد تعلق بذاكراتهم أحداث حتى تفد أخرى. إن شكل الجريدة يعكس هشاشة القصص التي نحياها يوميا وننساها، ويتيح للقارئ أن يتعامل مع النص كخبر طارئ، أو ككذبة موثقة.
6. ما هي التحديات التي واجهتك في النشر خارج المغرب، وكيف أثرت هذه التجربة على مسارك الأدبي؟
رغم أنني في بداية مشواري، فقد لمست أثر النشر خارج المغرب، من خلال اهتمام عدد من القراء الأصدقاء غير المغاربة بالمجموعة، ومحاولاتهم الوصول إليها وقراءتها.
النشر عموما، سواء داخل المغرب أو خارجه، ينطوي على تحديات عديدة، لعل أبرزها الوصول إلى القارئ المستهدف في ظل زحمة الإصدارات وضعف التوزيع. أما في السياق الخارجي، فثمة صعوبات إضافية تتعلق بالترويج، وبطبيعة الذوق الأدبي الذي قد يختلف من بيئة لأخرى.
مع ذلك، فإن هذه التجارب تمنحني رؤى أوسع حول استجابة القراء لنصوصي، وتدفعني لمساءلة اختياراتي الجمالية والسردية.
7. كيف ترى مستقبل القصة القصيرة في المغرب، خاصة في ظل هيمنة الرواية على المشهد الأدبي؟
القصة القصيرة حية بالتأكيد، ونشطة، ولا تزال تعيد اختراع نفسها. صحيح أن الرواية تهيمن، لكن القصة تواصل تمرينها الأجمل: الإيجاز العميق. إنها تنمو خارج الأضواء، في مختبرات التجريب، وفي همسات الكتاب الحقيقيين، أولئك العاشقين لمتاهات السرد، للنبش في تفاصيل الجمال.
8. في حوار سابق، ذكرت أنك تعمل على رواية منذ ثلاث سنوات. هل يمكنك أن تشاركنا بعض التفاصيل عن هذه التجربة؟
الرواية التي أعمل عليها تحمل عنوانا مؤقتا: "كيس الأقدار"،
هي محاولة لتقصي أثر الزمن، عبر منحيين سرديين مختلفين، بينهما تقاطعات تتجمع كقطع الـ"Puzzle"، لذلك، أكتبها ببطء، لأنها تتطلب صمتا أطول، وصدقا لا يُستعجل.
9. ما رأيك في "مجلة هارموني الحروف" كمشروع أدبي؟ وكيف ترى أهمية مثل هذه المنصات في دعم الأدب الشاب؟
"هارموني الحروف" منصة لا تكتفي بالمتابعة، إنها تنصت، تواكب، تخلق مساحات للإبداع، ومساحات للنقد. هذه المنصات ضرورية لأنها تمنح النص فرصة ثانية للحياة، وتكسر عزلة المبدع، وتخلق مجالا لتبادل النبضات الجمالية. نحن في أمس الحاجة إلى تظافر مثل هكذا منصات.
10. وأخيرا، لو طلبنا منك أن تختار عنوانا لنص أدبي مستوحى من فكرة "هارموني الحروف"، ماذا سيكون؟
أقترح عنوان: "السمفونية الصامتة"، ذلك أنها سيمفونية تُقرأ، فتُعاش داخل كل قارئ، كلٌّ حسب تلقيه. تُعزف حروفها بمهارة وحرفية، فتنتقل ذبذباتها الموسيقية إلى أوتار الروح، ليكون في ذلك رقيها وسموها.
بين همس الناي وفوضى الجاز، بين نبأ يُكتب كخبر لكنه يُقرأ كحياة، ينسج ضيفنا عالَمه السرديّ، حاملا شغفه بالكتابة كموسيقا تحتاج إلى وعي، وأذن داخلية تصغي، وقارئ قادر على التقاط النبرة خلف الكلمات. "السمفونية الصامتة" فلسفة كتابة يعتنقها: أن تترك للحرف أن يشتغل في الخلفية، دون صراخ، دون ادعاء، لكن بأثر لا يُمحى. وفي زمن يميل إلى السرعة والانبهار، تبقى مثل هذه النصوص بمثابة ارتجالات صادقة في قلب صمت يستحق الإصغاء، كان معنا ومعكم القاص المتألق بلال الخوخي في مجلة هارموني الحروف.


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق