"دب
الحلزون فوق حجارة .. من أين أتى يحمل داره"
_مما علق بذاكرتي من النصوص الأولى في
المدرسة_
***
يسبقه صوت
البوق وحمار يحمل كل فتافيت الكون، يحمل كل عجائب الدنيا.
***
انتفضت
أمي مخلفة مسلسلها وإناء اللوبياء. جرتني من يمناي وانحنت على ملابسها المطوية في
الدولاب تفتش بينها، استخرجت الدراهم وعدتها. تابعَتْ جرّي ككومة غسيل ملفوفة.
لفّت رأسها بوشاح قطني أبيض، أطلت من الباب تستطلع مصدر الصوت، ذبذباتُه مراوغة،
راقصَت رأس أمي ذات اليمين وذات الشمال، إلى أن تكفلت العين بتثبيته بعد انقشاع
رأس الحمار ثم التجلي الكلي لصاحبه.
***
يمشي
بثبات، بخطوات متناغمة تثير غبار الأرض، وتثير قلوب النسوة.
***
هي لحظة
فارقة في الزمن، تلك التي توقف فيها الحمار، وتوافدت النسوة من كل حدب وصوب. أمي،
الواصلة الأولى، بعدما زحزحها منبهها الداخلي العجيب، ودفع قدميها متحكما فيها
وفِيّ، وقفت كصنم أمام شواري الحمار، حتى بدت كأنها آخر الواصلات. نظرتُ إلى مكامن
السحر المستحوذة عليهن: المساحيق الملونة، الأساور وباقي الحلي، الأمشاط المختلفة…
تشكيلة مرصوصة بأنامل عفريت أو أجنحة ملاك، تلقّفتها الأعين وتخاطَفَتها الأيدي،
أشرقت لها الوجوه وافترت الثغور عن ابتسامات وأحاديث.
_ شوفي هذا كي جاني.
_ خودي الاصفر حسن، كيفتح لك لون الوجه
_ شدي ليا المراية عافاك
_ اليوم راجلي يجري عليا …
تعالت
ضحكاتهن وواصلن انتقاءاتهن. فطنت لكوني أقف وحيدا، فأمي أخذها التيار السحري، وأنا، بعد لحظة المس تلك،
وعيت بُعدي عن عالمهن، ولاحظت أن لا واحدة من النسوة جلبت رفقتها ولدا، وحدهن فقط،
في فسحتهن المقتطفة من كون عجيب، والمبثوثة على ظهر حمار.
***
يتركهن في
فوضاهن، ويتكئ على جذع تينة، وحماره بينهن، أميرا يعيش.
***
رمقتُ على
بعد شجراتٍ سعيدا ابن عمتي، يمشي مرتابا، ينحني فجأة ثم ينتصب، يستدير ببطء وعيناه
مثبتتان على الأرض. هرولتُ نحوه، سلك نحاسي مكوم في يمناه، وعود طويل يقلب به
خشائش الأرض بيسراه.
_ ماذا تفعل ياسعيد؟
_ أجمع الأسلاك النحاسية
_ لماذا؟
_ اجمع معي وستعرف السبب فيما بعد
طفقت أقلب
قطع الخردوات الملقاة بين النباتات، شاشة تلفاز مكسورة، ألواح بها حبيبات مثل
العدس، قطع لا علم لي بأهميتها ولا بمصادرها، أمسكت واحدة أشبه بمكعب صغير، قلبتها
بين يدي، ثم ألقيت بها، فانقض سعيد عليها قائلا:
_ ماذا تفعل أيها الأحمق؟
حملها
وحاول تفكيكها، أزاح عنها غشاء بلاستيكيا أزرقا فبدا السلك النحاسي ملفوفا عليها
بأسلوب منتظم دقيق، ففسخه كله وكومه في يده، والتفت نحوي:
_ لو وجدت مثله فأنت تعلم الآن ما ستفعل به
وافقته
بإيماءة رأس وانغمست في لعبة البحث الغامضة تلك، كنت متشوقا لأعرف نهايتها فاجتهدت
في تكويم الأسلاك.
***
يقضم كسرة
خبز، يصب الشاي ويرتشف، ورأس حماره هائم في كيس شعير.
***
جمعنا ما
احتاج سعيد إلى استعمال يديه معا والاستعانة بصدره لتثبيته، انمحت نظرته الغامقة
الباحثة وحل مكانها لمعان محبب، فكرت في أمي ومآلات بحثها هي الأخرى، ما الرابط
العجيب بين البحثين؟ هي تبحث بين عناصر الجمال، هو يبحث بين الخردوات والنفايات،
وأنا، ماذا عني أنا؟ ألا يجدر أن يكون لي بحثي الخاص كذلك؟ أخرجني سعيد من الأسئلة
المتكومة في دماغي كالأسلاك التي جمع وقال:
_ الآن، سأريك أهمية ما قمنا به.
توغلنا
بين الأحراش والأشجار، سبقني سعيد بخطوات فبدت معالم كده عالقة في ملابسه، سرواله
الأسود ملطخ بلون بني ونثار أشواك، وقميصه الأحمر مبرقع بسواد الأشياء الغريبة
التي ظل يبحث بينها. نظرت إلى ملابسي فوجدتني لم أسلم مما لحق بسعيد، حماسة البحث
والتركيز الشديد كانا كفيلين بنسيان أي شيء غير الأسلاك النحاسية.
أشار إليّ
بأن ننحرف يمينا حيث الطريق مستوية أكثر من سابقتها. جحظت عيناي من سحائب الغبار
المرتجة مع الريح فاختلت الرؤية، جاهدت في التثبت من مواضع قدميّ رافعا ذراعي
لتغطية عينيّ. هدأت الريح، انكشف الغبار، اختفى سعيد.
***
ينفض
جلبابه، يهيئ حماره، يأخذ نفسا عميقا، وينطلق.
***
_ لقد تأخرنا، كان عليك أن تنتبه جيدا كي لا
تتيه.
لم أكن
أظن أن للطريق تفرعات سينعرج منها، فقد بدت لي _في البدء_ مستقيمة طويلة، لذلك،
عندما ابتلعني الغبار، واصلت السير في خط مستقيم، إلا أن الاستقامة أحيانا تكون في
الانعراج، والتيه في عكسه، مثلما حصل معي. اضطر سعيد إلى العودة للأخذ بيدي وحثي
على الإسراع. اخترقنا مرة أخرى صفا من الأشجار والنباتات، إلى أن توقف سعيد
فتوقفت، قلت له:
_ إنه المكان حيث كان الرجل والحمار والنسوة.
قلّب
عينيه في الأرجاء مستطلعا ولهاثه يغلبه، فتابعته غير عالم بمرمى فعله، إلى أن نطق:
_ لقد ذهب، عليّ أن ألحق به
جرى
فجريت، توقف فتوقفت، انعرج فانعرجت. لمحتُ الحمار سابقا الرجل منحدريْن من مخرج
القرية. في اللحظة التي أردت أن أخبر سعيد بذلك رأيته يخترق الأشجار مجددا، إلى أن
خارت قواه أو كادت. انحنى بجانب شجرة يلهث، ثم استدار نحوي وقذف بكومة الأسلاك
التي تدحرجت بعيدا عني، لم يرغب أن يصيبني بالأسلاك، لكنه رغب أن يصيبني بمعنى
رميها، ويحسسني أنني سبب بلواه، تمتمتُ بكلمة بددها الريح: "أعتذر". نظر
إلى ارتجافة شفتيّ فاقترب مني وطبطب على كتفي، ثم مشى وانحنى على الأسلاك، حاولت
أن أقول شيئا، أي شيء يلهيه عما أصابه:
_ لقد رأيت الرجل والحمار يغادران القرية من
الطريق المؤدية إلى السوق.
حملق فيّ،
سأل:
_ لْعَطّااار؟ لِم لَم تخبرني قبلا؟
اندفع
أسرع مما كان يفعل، وارتسمت على وجهه لمعة بهية، فما كان مني، إلا الجري خلفه.
***
يمشي
بهدوء، بوقه معلق في الشواري، وقب جلبابه منتفخ بما ربح من تجارته.
***
يتحمل
سعيد جزءا كبيرا من مسؤولية تأخرنا عن اللحاق بالرجل، فلو أنه أخبرني بمبتغاه في
البدء لكنت ذا نفع له، خصوصا عندما رأيت الرجل وحماره فأردت أن أخبره، لو كنت أعلم
أنهما مقصده، لما توانيت في إيقافه وجعله يتبعني بدل أن أتبعه، لكن لا بأس، فقد
نال في النهاية مبتغاه، لحقنا بالرجل، توقف لسماعه نداء سعيد ولمرآنا نشق السبيل
نحوه.
_ لقد أتيتك بالأسلاك النحاسية
ابتسم
الرجل وأخذ الأسلاك من يدي سعيد، قدّر وزنها ثم وضعها في الشواري، أخرج من قبّه
قطعا نقدية ومدها إليه، تلقفها سعيد مبتسما، عدّها، ثم شكر الرجل.
نَحَونا
إلى القرية، مشينا صامتين، مبتهجين. كافأني سعيد بدرهمين نظير مساعدتي له، أول درهمين أنالهما نظير عمل أقوم به. عدنا إلى
البقعة الأولى، حيث كانت النسوة مجتمعات على كنوزهن، والرجل متكئا على جذع التينة،
وسعيد منكفئا على بحثه، وأنا مرتقبا موضعي وسط كل ذاك، ثم افترقنا.
***
يسبقني
صوت البوق والحمار، أجول في الأرض وفي الذاكرة، أبيع، أشتري، لا يهمني كم أجني
بقدر ما يهمني كم أتجول، أرى الناس، ابتساماتهم، مشاغلهم، ذرياتهم، أجر معي هذا
السحر الجميل، منذ وعيته للمرة الأولى، هناك، حيث جرتني أمي من يدي.
***

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق