ألقيتُ نظرة على ما لا يُرى في الظلام، وأنا أضع الفنجان على ركبتي. كل شيء بدا غريبا هذه الليلة، حتى السماء التي ألفتُ سوادها صارت بلون الرماد، كأن أحدهم محا نجومها بمنديل من التعب. ارتشفتُ ببطء كئيب من الفنجان، وكنت أعلم أن تلك الرشفة ستُغير كل شيء.
تسارعت الأحداث كما تفعل الظلال حين تداهمها قُبلة ضوء. لم يكن ما يحدث واضحا، لكن القمر الأخير رأيته يسقط. نعم، يسقط! ككرة بيضاء فقدت خيط الطائرة الورقية. حاولت السحب إيقافه، استعنت بالنجوم، رفرفت كما ترفرف يد أمّ مذعورة، لكنه كان شرسا، لا ينصاع.
كان عليَّ أن أفعل شيئا. لم يكن لديّ سوى مكنسة من شعاع مكسور، ودلو مثقوب لجمع الشتات. هذا كل ما تملكه الحراسة في زمن بلا نظام كوني. ها قد وصل... القمر، لكنه لم يكن كما ظننت، كان صغيرا، بحجم رأس طفل رضيع، شاحبا، وكأن كل الأشعار الحزينة صُبت فيه.
أمسكته بين راحتيّ، وقال لي، وهو يذوب بين أصابعي مثل قطعة سكر نسيت تحت المطر:
ــ لا تلمني... لقد تعبت من أن أكون مرآةً للبشر. كل ليلة يرمون عليّ أحلامهم الفارغة، أو يسألونني عن منامات لن تتحقق. امتلأت بهم، ولم أعد أقدر على دثر الضياء. كنت أظن أن دوري نبيل، لكنهم جعلوني سلة مهملات الأمل.
حاولت الحفاظ عليه. همستُ له بآيات ضوء، غطّيته بشال الحنين، لكن لا جدوى. انزلق كالزئبق، وذاب حتى صار بركة ضوء على الأرض. ظننتها ستنطفئ، لكنها أضاءت الحيّ بأكمله، ثم انفجرت بهدوء إلى آلاف الشظايا المضيئة.
عندها، بدأت الأقمار الأخرى تتساقط كرذاذ المطر. أحدها سقط في فم شاعر نائم، فاستفاق مذعورا وهو يلهج بقصيدة غير مكتملة عن "الاحتراق الصامت". وآخر علق بين خصلات شعر فتاة حسناء، فازداد نورا وإشعاعا حتى صار الناس يظنونها ملاكا جاء من كتاب.
أما أنا، فبقيت أجمع أشلاءهم في دلوي المثقوب، وأرتّبها كما يرتب الحالم مفردات حلم ناقص. كنت أسمع السماء تهمس خلفي، لا تهدأ:
ــ ماذا ستفعل بالليل عندما ينفد المخزون؟
أجبتها وأنا أفتش في كومة الضوء عن نجم مكسور:
ــ سأبتسم... وسأفرغ الدلو حتى ينهمر منه قوس قزح من الدموع المعلبة. لأنني أعرف، مثلما يعرف من لا ينام، أن الأقمار الجديدة لا تولد من البراكين ولا من الحمم، بل من علب الأحلام الفارغة... تلك التي يحتفظ بها العشاق والمجانين تحت الوسائد.
سألتني مرة أخرى:
ــ كيف عرفت؟
أجبت بهدوء:
ــ من لا ينام، يعرف أشياء كثيرة... يعرف أن النوم بابٌ للهرب، أما السهر، فهو حراسة الأسرار، وكتابةٌ سرية على حافة الظلمة.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق