فضاء ثقافي يحتفي بجماليات الأدب العربي. نقدم في هارموني الحروف دراسات نقدية، نصوصا سردية (قصص قصيرة وتجريبية)، وشعرا مرهفا. نغوص في فلسفة الأدب وتحليل الخطاب لنصنع محتوى خالدا. انضم إلينا لتبادل الرؤى في واحة الفكر والإبداع.

استراتيجية الصمت | حنان مصطفى

 

مجلة هارموني الحروف

كانت الشمس تميل نحو الغروب، تنثر آخر خيوطها الذهبية على زجاج نوافذ المدرسة، كأنها تودّع يومًا آخر من الأيام التي لا تكفّ عن الدوران. في غرفة المعلمات، كان الضحك يدور بخفة بين الوجوه المتعبة، بينما امتزجت الكلمات بوقع أقلام تخطّ ما تبقى من ملاحظات اليوم.

في زاوية بعيدة عن الضجيج، جلست حنين ترتب كتبها في هدوء، لكن عينيها كانتا شاردتين، تحلقان في فراغ بعيد. كانت تشعر أن الأيام تمضي وهي عالقة بين صمتها وصخب الحياة.

لم يمهله هذا الشرود طويلًا، إذ قطع عليها أفكارها صوت أسماء الفضولية، التي اقتربت منها وعلى وجهها ابتسامة مشاكسة:

— "حنين، ماذا جرى مع حماتك؟ هل ذهبتِ إليها؟ ماذا قالت لكِ؟"

لم تنتظر منها إجابة، بل تبعتها بأسئلة متلاحقة، وعيناها تتوهجان بفضول متقد. حولهما، كانت بقية المعلمات يخففن من ضحكاتهن ويسترقن السمع، وكأن الحديث تحوّل فجأة إلى فصل من رواية درامية مشوقة.

ابتسمت حنين بخفة، وكأنها كانت تتوقع هذا الهجوم المباغت، ثم مالت بجسدها قليلًا وقالت بصوت خافت لكنه يحمل ثقل الأيام:

— "لم يحدث شيء يا عزيزتي... سوى أنني اعتمدت خطة استراتيجية."


ارتفع حاجبا أسماء بفضول، فاقتربت أكثر وسألتها مستفسرة:

— "خطة؟ ماذا تقصدين؟ ماذا فعلتِ؟"

ضحكت حنين ضحكة قصيرة، كأنها تستعيد المشهد في ذهنها، ثم قالت، وعيناها تلتمعان بشيء من الحنين والألم معًا:

— "ذهبت إليها بكل رضا وحب ورغبة في ألا أزعجها وألا تزعجني، ولذلك وضعت سماعات في أذني. كلما بدأت بالكلام الناعم وكلام المديح لنفسها، أوقفت تلاوة القرآن التي كنت أستمع إليها، وأصغي إليها قليلًا، وما إن تبدأ بتحقيري والتقليل من شأني، حتى أعيد تشغيل القرآن وأرفع الصوت، ثم أرفع نظري نحوها وأكتفي بالنظر إلى عينيها بصمت، بينما في داخلي أردد الآيات التي كنت أسمعها."

ساد الصمت للحظات، قبل أن تهتف أسماء باندهاش:

— "ولماذا فعلتِ ذلك؟ ماذا استفدتِ؟ لم أفهم!"

أخذت حنين نفسًا عميقًا، وكأنها تحاول ترتيب أفكارها قبل أن تجيب بنبرة هادئة، لكنها تحمل في عمقها مرارة عمر بأكمله:

 

— "لأنني لم أشأ أن أنزل إلى مستواها في النزاع، فقررت أن أرتقي بنفسي، وأحافظ على تربية أمي، ولأجل أطفالي، وكرامةً لزوجي... ولأنه لم يكن الأمر يستحق الجدال على بعض المال."

 

كررت أسماء عبارة حنين: "لم يكن الأمر يستحق الجدال على بعض المال"، محاولة استيعاب الجملة، ثم قالت مستدركة:

— "حنين، عليكِ دين بسبب المنزل لأخيكِ؟!"


تنهدت حنين: 

— "أخي ينتظرني..."


تدخلت إحدى المعلمات، التي كانت تستمع بصمت، وسألت بحذر، لكونها جديدة في المدرسة: 

— "وزوجك؟ كيف كان موقفه؟"

مرّ ظل من الحزن في عيني حنين، لكنه سرعان ما اختفى خلف ابتسامة ساخرة، ثم قالت بصوت خافت لكنه مفعم بالمرارة:

— "زوجي رحمه الله... أرسله الله إلى راحة أبدية، وترك لي معركته الأخيرة وحدي."


خجلت المعلمة قائلة:

— "رحمه الله، أنا هنا منذ يومين ولا أعلم..." 

هزّت حنين رأسها، ولمعت عيناها للحظة، وكأنها تستعيد صورة زوجها، تلك الأيام التي قاسمته فيها كل شيء، حتى الفقر. تذكرت كيف كانت تعود من عملها مرهقة، وتجد ابتسامته في استقبالها، كأنها كانت وطنه الوحيد. وكيف كانا يهتمان بأطفالهما الثلاثة، كيف يعتنيان بنظافتهم وبطعامهم، وكيف كانا معًا في كل شيء.


تذكرت الأيام التي كان يعجز فيها عن تأمين احتياجات المنزل واحتياجات والدته، وكيف كانت تهوّن عليه الأمور وتطمئنه أن الغد سيكون أفضل. فقد كانا يعملان ويضعان رواتبهما معًا، دون فرق أو سؤال عن كمية المال أو من وضع أكثر، بينما كانت في داخلها تخشى ألا يأتي الغد أصلًا. 

لكن الموت لم يمنحهما فرصة أخرى.

ساد الصمت في الغرفة، حتى بدت أنفاس المعلمات مسموعة. غير أن أسماء لم تكن تعرف التوقف عند حدود الصمت، فعادت لتسأل بفضولها المعتاد:

— "لكن حماتك، ألم تلاحظ أنكِ تضعين سماعات؟"


ابتسمت حنين ببرود، وقالت: 

— "لم تكن بحاجة إلى أن تنتبه، المهم أنها أفرغت ما في قلبها، وحين شعرتُ أنها أنهت كل ما لديها، نظرت إليها بهدوء وقلت: ابنك ترك ثلاثمئة ألف، خذيها. ووضعت النقود على الطاولة، ثم غادرت."


تدخلت المعلمة التي بدت مصدومة:

— وكيف كان رد فعلها؟ 

— "تركتها في صدمتها، فلم تفتح فمها بأي كلمة."

— "ولكنها تريد المزيد... والبيت؟ والأطفال، هل يعلمون شيئًا؟"

 

تنهدت حنين، ثم نظرت إلى يديها المتشابكتين، كأنها تستعيد مشوارها الطويل، قبل أن تقول بنبرة جمعت بين الصبر والإرهاق:

— "يا عزيزتي، هي تحتاج إلى ذاكرة حقيقية، تحتاج إلى قليل من الإنصاف، لتتذكر أن ابنها لم يعمل لسنتين ونصف بسبب مرضه وعلاجه المكلف، الذي لم يساعدنا أحد في تأمينه. وكنت أنا التي أتولى كل المصاريف. حتى عندما بدأ العمل بعد أن تحسن، وجمع ثلاثمئة ألف، كنت أنا وأولادي أولى بها، لكنني تركتها لها.

أما البيت؟ فنصفه ورثة من أبي رحمه الله، وربعه من ذهبي، والربع الأخير دين من أخي الذي لم أسدده بعد.

أما الأطفال، فلا يعلمون شيئًا، ولن أخبرهم بما يحدث بيني وبين جدتهم. الحمد لله، الأولاد اليوم في رحلة مع خالهم."

 

في تلك اللحظة، تدخلت معلمة أخرى، كانت تتابع بصمت، وقالت متذكرة:

— "لكن، حنين... أذكر أنكِ أخبرتِنا ذات مرة أنكما دخلتما في جمعية باسم حماتك؟"

رفعت حنين رأسها نحوها، وساد الصمت للحظات، قبل أن تتنهد وتقول بمرارة:

— "صحيح... كانت تلك الجمعية نصبًا بنصب. لقد ذهب كل ما ادخرناه لثلاث سنوات سدى. حماتي، التي تتناسى دائمًا كل شيء، لم تدفع أي مبلغ من مالها، ومع ذلك، كان دفتر الجمعية باسمها.

أقنعت زوجي أن يعطيها المال، بحجة أن زوج أخته لديه جمعية سكنية، وأنها ستسجل على منزل لنا. كنا ندفع الأقساط أنا وزوجي، لكن بعد القسط الثالث، سمع الجميع بفضيحة الجمعية ونصبها، فقد كان مشروع احتيال، وليس مشروعًا سكنيًا.

اختفى حلم المنزل، وذهبت الأموال، وكأنها لم تكن. والذي قام بالنصب خرج من الاتهامات بريئًا، لم يُعِدْ أموالنا، ولم نرَ أرضًا تُبنى."

نظرت إلى وجوه المعلمات، التي تحولت تعابيرها إلى خليط من الصدمة والأسى، ثم أضافت بابتسامة ساخرة:

— "وبعد كل هذا، تتساءلون بماذا أشعر، أليس كذلك؟" 

بدت أسماء غير مستوعبة، فتساءلت بذهول:

— "ألم تشعري بالغضب؟"

ضحكت حنين ضحكة خافتة، ثم رفعت بصرها إلى السقف، قبل أن تقول:

— "هل رأيتِ بركانًا يثور على شاشة التلفاز؟ ذلك البركان كان في داخلي... لكنني استمعت إلى القرآن، قرأت، وانتظرت حتى انطفأت النيران، ولم يبقَ سوى الهدوء." نظرَتِ المعلماتُ إلى حنين بنظراتٍ حزينة، قائلين: "كان الله في عونكِ يا حنين."

نهضت حنين، وضعت حقيبتها على كتفها دون الاكتراث بنظرات وكلمات المعلمات، واستعدّت للمغادرة، لكن قبل أن تخرج من الغرفة، رنَّ هاتفها. كانت هناك رسالة جديدة.


تردّدت قليلًا قبل أن تفتحها، لكنها عندما قرأتها، بقيت تحدّق بها لثوانٍ، لم تدرِ هل تبتسم أم تبكي. 

كانت الرسالة من حماتها، ولم تحتوِ سوى على ثلاث كلمات:

"حنين، متى سترجعين؟"


شعرت برعشةٍ خفيفةٍ في قلبها، وكأنّ شيئًا مجهولًا تحرّك داخلها. هل كان هذا اعتذارًا مبطّنًا؟ أم محاولةً أخرى لسحبها إلى معركةٍ جديدة؟ 

لكنها عرفت شيئًا واحدًا... أن الصمت لم يكن مجرد استراتيجية، بل كان انتصارًا.

خرجت حنين الى الشارع بخطوات بطيئة .  تبحث بعينيها عن مكان يمنحها بعض الهدوء. لم تكن تريد العودة إلى المنزل الأن، ولا حتى الذهاب إلى مكان مألوف. فجأة وقعت عيناها على مقهى صغير عند زاوية الشارع . بإضاءة دافئة وواجهته الزجاجية التي تكشف عن طاولات خشبية أنيقة. بدأ المكان هادئا بعيد عن صخب الحياة التي تثقل روحها.دفعت باب المقهى ببطء. فاستقبلها صوت موسيقى ناعمة تمتزج برائحة القهو الطازجة. ألقت نظرة سريعة على المكان واختارت طاولة صغيرة بجانب النافذة

.

جلست حنين على الكرسي ووضعت الهاتف على الطاولة ، محاولةً استيعاب الأمور، تراقب فنجان القهوة  الذي طلبته . لعلّها تجد حلًّا هادئًا، بينما تتردّد في الردّ على رسالة حماتها. انزلقت أصابعها فوق الشاشة، ثم توقفت. لا تزال كلمات الرسالة عالقة في ذهنها: "متى سترجعين؟"


شعرت بثقل السنوات الماضية يتسلّل إلى صدرها. تذكّرت الليالي التي سهرت فيها بجوار زوجها المريض، والأيام التي عملت فيها بلا توقفٍ لتأمين علاجه ورعاية الأطفال. عادت إلى ذاكرتها نظرات حماتها الممتلئة باللوم، لا شيء كان يعجبها، كأنها لم تفعل ما يكفي، رغم أنها بذلت كل شيء.


تنهدت بعمق، رفعت الهاتف من على الطاولة، وبدأت تكتب: "لا أعلم." لكنها تراجعت، مسحت الكلمات، ثم وضعت الهاتف جانبًا.

في تلك اللحظة، تردّدت في ذهنها مقولة: "بعض المعارك تُربَح بالصمت." 

شعرت بارتياحٍ غريبٍ يسري في قلبها. أمسكت الهاتف مجددًا، لكن هذه المرة، ليس للردّ على حماتها، بل لإغلاقه تمامًا. ثم احتست قهوتها التي أصبحت باردة كقلبها، ولأول مرة منذ زمن، احتستها بسعادة، دون أن تفكر في أي شيء آخر.


هناك 6 تعليقات:

  1. ابداااع فعلااا مبدعة

    ردحذف
  2. معبرة أسلوب جميل

    ردحذف
  3. استطعتي رسم المشهد ببساطة وعمق نقلتِ الألم الذي تعانيه حنين وكأنّك نقلتِ انينها على الورق فكان صمتها أقوى من أي صوت ، شعرتُ بثقل ما تمرّ به دون الحاجة لشرح طويل ومستفاض .
    تملكين حسّاً إنسانياً وقلماً يعرف كيف يحاكي القلب والعقل

    ردحذف
    الردود
    1. أسعدني تعليقك وقراءتك المتأنية للقصة، وسعيدة لوصول المشاعر والتحديات إليك."

      حذف