فضاء ثقافي يحتفي بجماليات الأدب العربي. نقدم في هارموني الحروف دراسات نقدية، نصوصا سردية (قصص قصيرة وتجريبية)، وشعرا مرهفا. نغوص في فلسفة الأدب وتحليل الخطاب لنصنع محتوى خالدا. انضم إلينا لتبادل الرؤى في واحة الفكر والإبداع.

وسام عمروس تكتب: المتشرّد



بدا متشردا، لكن على قدر محترم من النظافة، علقت بوجهه بعض آثار لِوسامةٍ منسيّة، عيناه تجوبان كل ما توفّر مشاهدته في حافلة البسطاء تلك، حيث علت أصوات الركاب الإسبان وغناء السائق السعيد وبعض الأطفال المزعجين..

كان الكل يحكي عن أجواء يومه.. إلا صديقنا الصامت.. اعتزل الكلام على ما يبدو وترك لنظراته الجوفاء تولي المهمة..

التصقت هي بذراعه، كانت تغرس أنفاسها وثرثرتها برقبته.. سرقت بعض القبلات المؤجلة فيما بدا هو منزعجا من قربها ولغتها المكسرة ذات اللكنة اللاتينية.. لم يبادلها النظرات، لكن فراره داخل جسده كان جليّا، لي أنا على الأقل فقد كنت أجلس خلفهما مباشرة.

تحدثت وتحدثت وضحكت وحوطته سنين عمرها التي تفوق عمره مرتين أو أكثر من كل جانب! كانت تريه هاتفها كل مرة، ليكتب لها ترجمة ما يقوله أو لتريه ما تعني قوله.. يسيح جسده النحيل هاربا إلى طرف الكرسي فتعاود هي جرّه إليها ،ليحرك رأسه موافقا، فالرفض والقبول باتا عنده سواء..

بحثت هي عن الرفقة، فيما بحث هو عن شيء لم أفسره بعد..فرصة ما؟ لمصير مختلف؟ انسياب بائس عقّته الأحلام.. كل شيء وارد..

كنت أجلس بهدوء تام بعد أن أخفضت صوت الموسيقى، أردت الإستماع إلى ما لا يقوله هذا الصامد..فأنا عادة أبحث عن القصص الحية لما تبقى من ظلال الأحياء الصامدين، لأشخاص نسيتهم الحياة وأرادوا أن يُذكروا ولو عن ظهر غيب، في سطور أحدهم.. أنظر وأسمع وأدون كل لحظة، في أكثر الأماكن بساطة، كهذه الحافلة المهترئة، لربما أحتاجها يوما..

مرّت الدقائق العشرون وكأنها دهر، تمنيت لو كان باستطاعتي إلقاء رفيقته خارج النافذة كي أرتاح ويرتاح هذا الشبح الجالس أمامي..

انتبهت إلى محطتي ثم طلبت من السائق التوقف، التفت الشارد إلى ندائي..نظر إليّ نظرة تشبه الاستنجاد، لم تدم أكثر من ثانية واحدة! ثانية أفضت بالكثير من اللقاءات والحوارات والضحكات والغصّات والعناقات الإنسانية الخالية من كل مقاضيات.. سمعت الطفل، سمعت اليافع، سمعت النادم، سمعت العاشق، سمعت المغدور.. الحالم الثابت أمام أنياب الموت! سمعت كيف يغرق المرء وهو يطفو فوق الذكريات..

توقفت الحافلة وسرعان ما وقفتُ أتأبط حقيبتي البنية، كانت بنفس لون عينيه..أنجبت الثانية ثواني أخرى تعلقت بخطواتي وهي تسير نحو باب النزول، اقتلعت نظراتي من عينيه التي لمع بهما ظل ابتسامة، وجدتني أبتسم وأنا أنظر إلى الأسفل..

تركت الحافلة ولم ألتفت، شعرت بحقيبتي مثقلة بما فسرته لاحقا بباقة من فضفضاته.. كنت قد وعدته في سري بأنني سأتذكره..وها أنا أفي بوعدي..

ستحيا يا رجل، وستسكن قصتك أوراقي يوما ما.. تحت غلاف ما ..بذهن قارئ ما..

 


 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق