تغرق
الرباط كل ليلة في سواد حالك، وتلك الليلة بالذات، كانت غارقة في صمت مريب وجو
ماطر، لكن الطقس لم يردعه عن ركوب سيارة الأجرة والتوجه صوب البار، هذا ما يفعله
كل سبت، ولا تستطيع الزوابع ولا الفيضانات
تكسير مخططاته، المطر يضرب بقوة أرصفة شوارع أكدال الخالية، والضباب يحجب رؤية حتى
إشارات المرور، يتأمل البنايات الشاهقة ويحاول إعادة صياغة شيء ما في ذهنه، أبى أن
يندثر، لا يعرف ما هو بالضبط ربما كثرة أشغاله، ربما هذيان الرجل العجوز الذي جلس
بجانبه صباحا، في المقهى، أو ربما الحلم الذي زاره لثلاث ليال دون أن يتمكن من كشف
مغزاه، وردة سوداء ملطخة بالدماء، جسم أنثوي مطروز بالوشوم لا يتذكر منه سوى وشم
أو اثنان ... وصل... نقد سائق التاكسي ثم دلف الى البار، الأجواء داخل البار
كعادتها دافئة وصاخبة، معطرة برائحة الويسكي والعرق.
ظننا أنك لن تأتي هذه الليلة.
قال الرجل الأربعيني الذي يبدو وكأنه ازداد في هذا المكان.
أجابه:
أنت تعرفني، لا يمكنني أن أتغيب.
رد عليه ابن البار بسخرية ودية:
الخمر والبوكر، لايمكنك العيش دونهما،
سيلتحق س بعد قليل، ثم نبدأ اللعب، لكن إياك أن تختلق..
قاطعه مجيبا بثقة: نادني عندما يصل،
سأكون في مكاني المعتاد.
التفت، غمز للنادل، رد عليه بغمزة هو الاخر وجلس في الزاوية، متأملا قطرات
المطر التي ترسم خطوطا على الزجاج، وصل الكأس فشربه دفعة واحدة ثم طلب كأسا اخر،
انفتح الباب من جديد، لتدخل فتاة في الثلاثينات من عمرها، ترتدي فستان ديكولتيه(
فستان ديكولتيه في هذا الجو ؟ غريب...!) شعرها كستنائي طويل ومتموج، ينسدل على
كتفيها كشلالات نياجرا وعينيها الغائرتين تتفحصان المكان بالشكل الذي جعله يكاد
يقسم أنها شرطية. من يدري؟ لكن مما لا شك فيه أنها المرة الأولى التي ستدخل فيها
هذا المكان؛ هذه البقعة التي تشبه الوحل، تمتص قدميك وترفض بكل ما أوتيت من جهد أن
تسمح لك بتخليص نفسك منها.
عادة، الضيوف الجدد وخاصة الاناث منهم، هو من يتكلف باستقبالهم، لذلك ابستم
لها بإعجاب، فردت عليه بأخرى باردة، أمعنت النظر في تفاصيله ثم أشاحت بعينيها الى
الزاوية الأخرى. كان من الواضح أنها تبحث عن شخص ما، شخص تعرفه، شخص ربما قيل لها
أنه سيكون هنا. اتجهت نحو الطاولة الفارغة قرب منضدة المشروبات ووضعت حقيبة يدها
فوقها، وكأنها ستقابل شخصا الآن. استمر هو في مراقبتها، هدوء تام تلاه دوي عربدة
رجل أكثر في شربه، تدخل حراس البار ليخرجوه، فُتح الباب، فتسرب الريح القوي الى
الداخل، ما جعل فستان الفتاة يرتفع قليلا، لكنها أعادته الى مكانه بسرعة، لكن
سرعتها لم تكن كافية، فقد كان قد تلقف ببصره الوشم على فخذها ، وشم على شكل نجمة
سداسية محفورة على لحمها الأبيض، نفس الوشم الذي كان يراه في منامه كل ليلة قبل أن
يستيقظ على صوت رصاصة في الرأس. ارتجف جسده، واندفع من مقعده للخارج ركض في
الشوارع المبتلة، تاركا خلفه رائحة الويسكي ودفء البار، وعقب السيجارة التي كان
يحاول إغواءها بدخانها.
محمد أمين لقرع

تحية خاصة للكاتب محمد أمين لقرع كتابة رائعة وأسلوب راقي وطريقة سرد متميزة 🌹
ردحذف