مدينة المنيا في نهاية شهر يناير، شتاء هذا العام قاسٍ، الأمطار تهطل بكثرة، العواصف الشديدة تكاد تقتلع الأشجار، الأمواج تتلاطم بعنف وتكاد تفتت الصخور على جانبي النيل، الناس تسرع الخطا خوفًا من شدة البرد التي تكاد تجمّد الأطراف، جلس محمد نادي شاب في الأربعين من عمره، على عينيه نظارة طبية، تسلل الشعر الأبيض إلى رأسه قبل الأوان، لعلها مشاكل الحياة، جلس في الحافلة لتقله بعد قليل إلى بلدته في الريف حيث قريته الصغيرة الواقعة على ضفاف البحر اليوسفي، بلدته مسقط رأسه فيها نشأ وترعرع، ذكريات عديدة تمر برأسه، يتذكر بعضها وينسى أكثرها.إنَّه اليوم يسافر ليأخذ حقه في الميراث من الأرض الزراعية التي تركها والده الحاج نادي، تذكره بوجهه الطيب وملامحه الهادئة، تذكَّر والده الذي كافح وتعب طوال حياته حتى اشترى هذه الأرض، رغم أنَّه بدأ حياته موظفًا يتقاضى جنيهات معدودة. وتذكَّر طفله الصغير خالد الذى لا يتجاوز العاشرة من عمره، إنَّ طفله مريض عيناه تدمعان بكثرة، لقد عرضه على أكثر من طبيب للعيون ، كل طبيب يكتب علاجًا يختلف عن الآخر، ويشخّص المرض بأسباب مختلفة عن الطبيب الآخر ، الدموع تنهمر من عيني الطفل بغزارة، الطفل لا يستطيع متابعة المعلم ولا قراءة ما على السبورة، لقد أثرت الحالة على نفسية الصغير، اختفت ابتسامته، أصبح يميل إلى العزلة، لا يستطيع اللعب مع أقرانه، دموعه الغزيرة تفسد عليه لهوه البرئ، تذكَّر يوم عاد طفله من المدرسة باكيًا، اقترب من الطفل وعرف منه سبب بكائه، لقد رسب في مادتين، إنَّها المرة الأولى التي يرسب فيها،
لقد كان دائمًا متفوقًا، هوَّن على طفله الأمر، وفي مساء اليوم نفسه، اصطحبه إلى طبيب مشهور للعيون، تقع عيادته في ميدان المحطة بالمنيا، حيث الضجيج والضوضاء، اقترب من عيادة الطبيب، اللافتة عليها اسمه والشهادات التي حصل عليها، والدرجات الوظيفية التي يتولاها في الجامعة. دفع قيمة الكشف للممرضة(ثلاثمائه جنيه) كاملة، هذا المبلغ كبير بالنسبة له، ولكن ليس مهمًا، سيتحمل من أجل طفله، جاء دوره في الفحص، اصطحب الطفل، استقبله الطبيب ببشاشة ظاهرة وترحيب زائد، شرح له حالة طفله، اقترب الطبيب من عيني الطفل وفحصه بدقة، ثُمَّ رفع رأسه فجأة قائلاً: يا أستاذ محمد، ابنك يحتاج لعملية جراحية عاجلة، ثُمَّ نظر إليه مُبتسِمًا: ستكلفك عشرين ألف جنيه، فتح الأب فاهه من فرط الدهشة قائلاً: لا يمكنني أن أدفع هذا المبلغ الكبير، فأنا موظف بسيط. رد عليه الطبيب قائلاً: ليس عندي وقت وضغط على زر الجرس ليدخل المريض التالي. خرج محمد آسفًا متعجِبًا من جشع الطبيب، ولكن ماذا يفعل؟ أمسك الطفل من يده، خرج يجرُّ قدميه جرًّا، لا يشعر بشئ، يسير كالأعمى، الدنيا تظلم فى عينيه. ماذا يفعل؟ وكيف له بهذا المبلغ، وفجأة لمعت في رأسه فكرة. الأرض التي تركها له والده، إنَّ له حقًّا فيها، خمسة قراريط من الأرض تقدر قيمتها بخمسمائة ألف جنيه، ولكنَّه لا يريد سوى ثمن العملية الجراحية لطفله. عاد لبيته، استقبلته زوجه بلهفة وقلق على أخبار الطفل، نظر محمد إلى زوجه وأخبرها بالمبلغ الذي طلبه الطبيب، صُعِقت الزوجة من ضخامة المبلغ، أخذت تبكي على طفلها، طمَّأن محمد زوجه وأنَّه سيدبر المبلغ بإذن الله، ولكنَّها نظرت إليه والدموع تترقرق في عينيها، وصاحت: من أين لنا بهذا المبلغ الكبير؟ طمَّأنها بأنَّه سوف يأخذ حقَّه في الميراث، ردت عليه: ليس لك حق، لقد استولى أخوك على كل شيء: الأرض والبيت، باع أبوك له كل شيء قبل وفاته.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق