على
كورنيش المدينة، هناك فتاةٌ جميلة، ربّما تبلغ من العمر 14 عامًا فقط. تباشيرُ
الأنوثة تعلو وجهها الحنطيّ. هواء البحر يؤرجح شعرها الكستنائيّ. تحمل بين يديها
سلّةً من قشٍّ داخلها غاردينيا، تتناوب على رصّها على متن خيطٍ متينٍ مع طفلٍ
يصغرها بسنوات؛ ربّما هو شقيقها. يلاحقان المارّةَ برائحتها العذبة، المارّة الذين
يدركون غلاوة العطر وندرة الابتسامات البريئة، فتمتلئ جيوب الولدين وتفرغ السّلّة
من محتواها، بلمح البصر.
هناك
بائع بالونات يمرّ بين الدّرّاجات الهوائيّة وخلف عربات الذّرة، يزاحمُ صوتُه صوتَ
المراكب والأمواج وفيروز المدندنة في زوايا لا تعرف مواقعها تحديدًا، فيفلت
الأطفالُ من أيادي أمّهاتهم يتبعونه نحو جنّةٍ صغيرةٍ يتحكّمون بنعيمها بأصابعهم
النّحيلة.
هناك
بائع مرطّباتٍ، تقترب منه صبيّة لتبتاعَ زجاجة ماءٍ باردٍ. يسألها من أيّ منطقةٍ
هي؟ وإذ يلمس منها تبرّمًا، يستدرك الموقف بحجّة أنّ الماء يُباع في العاصمة بسعرٍ
أعلى من الشّمال، وعلى سبيل المعاملة بالمثل، فالمنطقة ضروريّة لتحديد السّعر
المطلوب! ولأنّ العذر لم يقنعها، دفعت ما يدفعه أبناء المدينة ومضت تهزّ رأسَها
ضاحكةً.
هناك
مجموعة أصدقاء يترجّلون من على متن سفينةٍ، لم أتمكّن من تمييز اسمها لأنّ نظّارتي
ليست معي. من بينهم صبيّة كانت تستعرضُ توازنها على مقدّمة السّفينة، فقدت فردةً
من حذائها فمن شدّة الأسف ألقت بالأخرى إلى البحر وأكملت سيرها على الكورنيش
حافيةً تستقطب فضول المارّة متباهية.
من قالَ أنّ الأيامَ تتشابه؟
تشتري بلوزة وحذاءً جديدين وتحاذر
أن يمسّهما حتّى الماء، حتّى تدلق عليكَ السّماء فجأةً مطرًا غزيرًا مباغتًا يبطش
بكامل أناقتك، فتقول لا بأس وتبتسم ...
تدخل حياتكَ فتاةٌ جديدةٌ كأنّ
الله دسّها لوقتِ توجّسِك، تتذكّر حذركَ من الغرباء فتتريّث قبل أن ترفعها إلى
مرتبة "صديقة"، لكنّ لاسمها (صونيا) صفيرًا وهي تمليه عليكَ لتتبادلا
الدّردشة الإلكترونية، لروحها حضورٌ يبعث على الرّاحة، ولمساحتكما المشتركة طعم
الحلول السّحرية لكلّ عظيمٍ بنظرها هباءً منثورا ... وتبتسم ...
وأنت تفكّر كيف تقسم راتبك، ترفع
نظرك من تطبيق الآلة الحاسبة، وقد شدّك من أذنيكَ صوت طفلين شقيقين يتقاتلان على
رصيف المدينة الأحبّ إلى قلبك، وعلى يمينك مباشرةً بائع البالونات الملوّنة كأنّ
المشهد اكتمل بحضورك كي تهديَ كلًا منهما أرنبًا ونمرًا، ثمّ تضمّ إليهما نفسك كمن
يتعافى من طفلٍ يبكي داخلك، وتبتسم ...
تفتح باب سيارة الأجرة، ثمّ
تتذكّر قرارك بالانسحاب من ذاكرة المرايا عنك، تعتذر وتعود أدراجك إلى صالون
التجميل، تستسلم لذوقٍ لا تختاره، تصدّق مؤامرة صديقاتك المصففات بإدخال ألوانٍ
غريبةٍ إلى رأسك، ثمّ تتواطأ بالانبهار
بالشّخص الجديد الذي صرتَ عليه والذي ستحبه على أي حالٍ، وتبتسم ...
مَن
قالَ أنّ الأيّامَ تتشابه؟
هناك
قرصُ الشّمس يتوارى ببطءٍ خلف الأفق، كمن لا يريد أن يغادرَ المشهد كما في
"تيليتابيز"، هناك رغبة عنيفة في ضخّ النّبض في عروق مدينةٍ يساورها التّعب
عندما ينامُ أبناؤها...
من قال أنّ الأيام تتشابه؟
على الشّرفة، أنشر قطع الملابس
على حبل الغسيل بينما يتجسّدُ اللّيلُ لمقارعتي. من الهاتف يعلو صوت ريم بنا: وإن
تمنّيتُ شيئًا، فأنت كلّ التّمنّي! القمرُ قرصٌ من ضوءٍ في الأعلى والغيوم أمنياتٌ
مضجعةٌ حوله فضّةً تبعثرُ وحدته. علّمتني أمّي أن أرتّب الغسيل من الأكبر إلى
الأصغر لتستنسخَ نفسها كربّة بيتٍ حذقةٍ، وقد نجحت على ما يبدو. سراويل أبنائي
تزداد طولًا كلّ فصل، لقد تبدّل ترتيبها من اليمين إلى اليسار، كبرَت صرخاتُ ألمي
وطبقات صوت ريم واستقرّت أمنيتي في سلّةٍ من عبق اللافندر. أرتّب الأشياء من
كبيرها إلى صغيرها: الرّحمة، الجنون، الحب، الرائحة، الذّكريات، الحزن .. أتحسّسُ الألم في أسفل ظهري وأنا أتفقّدُ
سلامةَ الليلِ في أعمدة الإنارة، أخشى أن يطغى الشّبحُ الصّامت على الأمّ الصّاخبة
فيّ، أن تكبر السنينُ في حياتي، وأصغر مقارنةً بأولادي.
وأنت تهمّ بوصل الهاتف بالشّاحن
آخر اليوم، تصلك رسالة "صونيا": لا تنسي الزومبا، لا تنسي الرّقص، الرقص
يساعد على خسارة الوزن ... وزن الجسد ووزن الهمّ ... وتبتسم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق