فضاء ثقافي يحتفي بجماليات الأدب العربي. نقدم في هارموني الحروف دراسات نقدية، نصوصا سردية (قصص قصيرة وتجريبية)، وشعرا مرهفا. نغوص في فلسفة الأدب وتحليل الخطاب لنصنع محتوى خالدا. انضم إلينا لتبادل الرؤى في واحة الفكر والإبداع.

الضوء الغامض الصوت | فادي أبو ديب


مجلة هارموني الحروف

كالزّيتونِ الفضِّيِّ

سُقيتَ ليلًا مياهَ البعلِ

ضحكْتَ للصّاعقةِ

ولم تختبئْ من وجهِ زئيرِالملائكةِ

أنتَ زيتونةٌ مُعمّرةٌ

ولكن، لا تفرحْ!

في بلادِكَ لا يُجنى الزّيتونُ إلّا بعدَ ضربِهِ،

ولا يُكرَّمُ المُعلّمون إلا بعدَ صلبِهم

والأنبياءُ هناكَ إمّا قتَلةٌ أو قتلى

الموتُ في دمِكَ عادةُ الحياةِ

فمن يقدرُ إذًا أن يُقنِعَكَ

بأنّ الحياةَ ليسَتْ صِدامًا سرمديًّا

بين المجرّاتِ

وأنّ مواسمَ الحصادِ

ليسَتْ مجرّدَ أزمنةٍ

للاغتيالِ؟

**

أتسألينَ ماذا يحدثُ عندما أنظرُ إليكِ؟

كما يحدثُ حينَ أسمعُ ترتيلةً

وتُعجزُني اللّغةُ

أستقرئُ الزّمانَ كروميٍّ تائهٍ

مُحَطَّمِ الأضلاعِ على شاطئِ "بَطْمُسَ"

ينتظرُ رؤيا

ولا تجيءُ.

**

كُلَّ ليلةٍ

بعدَ أن يبرحَني النّهارُ ضربًا

يُقالُ لي إنَّ الأرغفةَ مرميّةٌ في الغابةِ

اخرجْ، وسدَّ بها رمَقَكَ.

**

المدينةُ واسعةٌ جدًّا

ولكنَّ خبزي

ما زالَ في سنابِلِهِ خارجَ أسوارِها

والسّنابلُ في بطنِ الأرضِ.

**

كُلّما تسلّقتْني السّنونُ

أشعرُ بمساماتي مليئةً بالحكمةِ

لكنَّ ظهري ثقيلٌ

وعينيّ يغدرُهما الضّوءُ

ولساني مُنتَشٍ بتذوّقِ الخُبزِ.

** 

في باريس،

أسألُ أمّي وأبي

لماذا كنتُما تُحِبّانِ "بوب مارلي"؟

تقولُ: لأنَّ أنوارَ الظّهيرةِ

كانَتْ ترقُصُ على ألحانِهِ.

يقولُ: لأنَّني أحبُّه!

هل خمّنْتُ في سرّي

أنّ صوتَهُ كان يمنحُ المُدُنَ

رائحةَ خلجانِ الفرحِ البعيدِ

ويُسبغُ على الأشياءِ الواضحةِ

نكهةَ الإبهامِ

الذي أضعْناهُ جميعًا؟

**

ألفُ عامٍ من الجَوَلانِ في الأرضِ،

ثمّ تلتقي طُرُقُنا في المدينةِ

ماذا يحدثُ حين تلتقي الوجوهُ المُنهَكَةُ؟

أراكِ تجوسين في المَكانِ

تبتسمين للرّفاقِ بقلقٍ واقتضابٍ

وعيناكِ حولي في كلِّ الأمكنةِ.

ما أحلى انتهازَكِ للحظةٍ ينكسِرُ فيها الوقتُ!

تشقّين دربكِ بين حطامِهِ السّديميِّ

نحوَ شَبَحي المُتنقّلِ بين الزّوايا القريبة

تُلقين على كتفيَّ ظلالَكِ وبعضَ الأنفاسِ

أسمعُ منكِ هَيْنَمَةَ

"سبحان الذي يجمعُ جسمَين في مكانٍ!"

ثمّ بلا وداعٍ

تختفين.

**

يعرفُ أنّكِ تُخفينَه عن عيونِ النّاسِ

يعرفُ أنّكِ تُخبّئينَهُ بين الطّنافسِ النّبيذيّةِ

التي جلبْتِها من "قرطُبةَ"

وتُسجّلينَ اسمَهُ على ورقةٍ من "ترجمانِ الأشواق"

وأنّكِ توارينَهُ عن نفسِكِ

لكي تصيبَكِ الدّهشةُ

في كلِّ مرّةٍ تجدينَهُ

يعرفُ أنّ الحرارةَ فيكِ بين تيّاراتِ الأعماقِ

كبُحَيرةٍ في أوّلِ الصّيفِ

أو آخرِهِ.

**

تعرفينَ كيف تزرَعينَ المُفاجأةَ

لكي تحصدي السّعادةَ

وكيفَ تتزيّنينَ جيّدًا بِألوانِ المعبدِ

وزيتِ البخورِ

تعرفينَ كيفَ تجعلينَ الرّعدَ بينَكُما

أحجيَةً لا تتَطلّبُ الحلَّ

بقدرِ ما تستدعي الفرَحَ

"حلالٌ عليكِ!"

كما يُقالُ.

**

سألتُهُ لماذا ابتنيتَ بيتًا

إن كنتَ هاجِرَهُ

لماذا غَرَسْتَ جنائنَ

إذا كنتَ ستترُكُها للعاصفةِ

لماذا وضعْتَ لنا بُرْجًا في طرَفِ المدينةِ

وأنتَ تعرفُ أنّ الجندَ سيَدوسونَهُ

وأنّنا بدوٌ رُحَّلٌ نسوقُ السّحابَ المُضيءَ

إلى حيثُ ينبغي؟

قالَ:

طوبى لمَن بنى ولم يسكنْ

لمَن غرَسَ ولم يأكُلْ


لمَن عرَفَ أنّ وقتَ الرّحيلِ يزفُّ

حين يحلُّ الشّفقُ

أعددْتُ نُزُلًا لكتيبةِ ملائكةٍ

جزيرةً في بحرِ القيامَةِ الأخيرِ
مَكانًا لصاحِبِ البوقِ

يستدعي المدينةَ إلى مُراقبةِ ساعةِ المطرِ ذاكَ
ألا تعرفُ أنّ اسمي نبعُ ماءٍ

ليشربَ منّي الدّهرُ الجديدُ؟

 

فادي أبو ديب، شاعر سوري.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق