وجدْتُ سلواي عنِ الأيّامِ الرتيبة، حينما اضطجعتِ يوماً بجنبي، وأخبرتِني بشفتينِ مُضطربتين، وبمآقٍ ساحتْ عبراتُها بالوجنتين: "أريدُ ابناً."
كُنّا متفقين سلفاً: لا إنجاب، لا مزيدَ من البؤس، ولا طِفلَ نُقامِرُ بحظوظِه. سنكتبُ على شاهِدِ قبرِنا: ابننا الذي في السماء، ابننا الذي يُطِلُّ علينا من فِجاجِ الغيب: كنْ ممتنّاً، أيّها المحظوظ!
لكنّ الفِكْر، الأدب، كُلّ ما قرأنا، وجميع ما كتبنا، خنع عند محراب الغريزة. والأنثى، كالعادة، لا تُقاوِم إغواءَ الشّوارد. والرّجل يستكين، وتُحطِّمُ معتقدَهُ الحوادِث، عندَ أوّل ارتماءٍ بحضنٍ أمومي.
أزحتُ دمعةً من خدّك، وبِلثمةٍ على شفتيك اللتين أصبحتا كخطّ برزخي يفصلُ المالح عن الحلو، وافقتُ. أزحتُ شعرك المنسدل عند عينيك بأناملي، وقلتُ مُبتسما ابتسامة منهزم: "سيرث جُنونَنا، وما أحوج العالم للمجانين."
كنتِ فتنةَ الدّجالِ على قلبي، صيّركِ القدرُ عِقاباً، بعدَ جريمةِ القلبِ العُذريّ لخمس وعشرين سنة. كُلّما انتحَبْتِ تلقّفَتْ شراييني أريجَ باتيست غرونوي، وكلّما لمحتُ هالةَ السّحر التي تلفّك، خاطبْتُكِ ممازحا: " يا سليلةَ ديفيد كوبرفيلد!"
رأيتُكِ لأوّل مرة عندَ مرآبٍ للسيارات. فررتِ من منزلكم، وتركتِ أبويْك غريقي جُبٍّ من العارِ أمامَ الجيران. استشكلَ عليهم كثيراً دواعي أفولِ شمسك عن منزلهم. وذاتَ يوم، عندَ أحد أدرجِ مكتبِك المدرسيّ المُهمل، وجدَتْ أمكِ مُذَكّرةً بلونِ الكعبة. هدمتِها حجراً حجراً بمنجنيقٍ من الكفر. "استحوذَ عليك الشيطان"، هذا ما قالَ أبوك. أمّا أنتِ حبيبتي، فقدْ كنتِ تنظرين للشيطانِ كمرآةٍ للتفكير، وأنّ الوسواس الخنّاس فكرةٌ تَختزِلُ تاريخاً سياسيّاً يُكبّلُ العقل، ويجعلُهُ تحتَ عُهدةِ الأساطير. آهٍ، كم كنتِ - أيتها الملعونة - تُرعبينني بحديثك، أثناءَ سيجارةِ ما بعد الجِماع.
كنتُ أغار من حبّك لكونديرا دوناً عن غيرِه. لمْ يكنْ يثيرني أوستر، أو بيتر هاندكه، أو هيغو. ذاتَ مرّةٍ أشعلتُ النّار في رواية البطء عن عمد. وجدْتُ في قراءتِك المتكررة لها رسالةً مُبطنة إلي. لمْ تستطِيعي مسامحتي عن ذلك أبدا.
كنتُ أحبُّ سيلفيا وجين أوستن. وكردّةِ فعلٍ منك، خزّنتِ بَولَ يومٍ كامل. وصباحاً، وجدْتُ كاتبتاي المفضلتان غارقتين في دورة المياه.
لمْ أرَ جموحاً في حياتي، مثلما رأيتُ منك. قرأتِ بِشبقٍ، وكتبتِ بإيروسٍ شيطانيّ. دنّسنا سويّاً قداسة كلّ شيء: المكتبات، المتاحف، السينما، الغابات، مدارجُ الكليات، البحر، الليل، النهار... كُلّها سترفعُ يوم القيامة، أصابعَ اتّهامها في وجهِ مُضاجعاتِنا الحيوانية.
شهراً بعدَ قرارِ الإنجاب، حبلتِ. سعدنْا بذلك، رُغمَ الهلعِ الذي قضّ مضاجِعنا، ابتلعتنا دوّاماتٌ من الهواجس الإشكالية:
على أيّ أساسٍ أو قاعدة، سيُربي ملعونانِ طفلا، وهما، بذاتِهما، ليسَ لديهما قاعدةٌ ولا أساس؟!
أحببتُ استدارةَ بطنك الجديدة. وأستغِربُ كيف تأكلُ هذه الكائناتُ المتوحشّة الصغيرة كلَّ شيءٍ في المرأة: ملامحها، مزاجها، غذاءها، قوامها. لكنّ المرأةَ كائنٌ مازوخِيٌّ بطبعِه: يُحِبُّ أن يُؤكل، ويحبُّ أن يُتغذى عليه، يحبُّ أن يُعلّق على صليب التضحية، كم تتلذذُ بذلك! تشعرُ بأنّها مصدرُ الوجود. عقدةُ الضلعِ الآدميّ، مازالتْ في تُرقوتِها.
اقتربَ موعِدُ الوضع، ودونَ سبقِ إنذار، كالعواصف التي تجتاحُ السكون الذي يشي بالأمان. عُدْتُ يوماً للمنزل. بحثْتُ عنكِ بينَ أرجائه، لمْ أجدك. ناديتُك، لم تُجيبي. سمعتُ خشخشةً، فتحتُ بابَ المِرحاض: ابنُنا، في يديك، استحالَ إلى قطعٍ منثورة. أكلتِ أجزاءً منه، وأجزاءٌ أخرى في فمك، مازالت في طور المعالجة.
لا أنسى تلكَ النّظرة. نظرة الجنونِ، حينَ يتجاوزُ الإنسانُ مطبّة العقل لأوّل مرة، هل أقولُ إنّني لم أرَ انتشاءً كذلك؟ شعرتُ أنّكِ بلغتِ ذِروةَ الشّبقِ الإبداعي، وكانَ ابنُنا النقطةَ التي عندها قذفتِ العقل بعيداً. أصبحتِ اللوحة السورياليّة التي لطالما أردتِ أن ترسميها، أزحتِ صنمك الأخير: الأمومة.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق