فضاء ثقافي يحتفي بجماليات الأدب العربي. نقدم في هارموني الحروف دراسات نقدية، نصوصا سردية (قصص قصيرة وتجريبية)، وشعرا مرهفا. نغوص في فلسفة الأدب وتحليل الخطاب لنصنع محتوى خالدا. انضم إلينا لتبادل الرؤى في واحة الفكر والإبداع.

الشعر بين حماس الصّبا وقيودِ المجتمع | أحمد دبيش

مجلة هارموني الحروف

سادَ في فلسفةِ المسابقات الشعرية الحالية، أن تكون القصيدةُ الجديرة بالفوز،  تحملُ أبعاداً إنسانيةً ومعانٍ فلسفية، ودلالاتٍ منطقية، وتساؤلاتٍ كونية، وحشو لأسماء شخصيات تاريخية أو خالية، ناهيك عن وجوب تأثر صاحبها بقراءات لقدماء الأساطير اليونانية، و عمالقة الرواية الغربية الحديثة، مع تشبّع بالثقافة الفرنسية، و استظهارٍ للشعر الانجليزي، واستحضارٍ لروح المعرّي، وكبرياءِ المتنبي، و رقّة العباس ابن الأحنف، ومع اتفاقنا التّام مع وجوبِ حضور كل هذه الدعائم من أجل كتابة القصيدة، غير أنّ السؤالَ الذي يطرحُ نفسَه، أليس أجمل شعرٍ كتبهُ أصحابُه في فترة الصبا؟ مما يدلّ دلالة واضحة على ضيق اطلاعهم، فمهما بلغَ فلنْ يستطيع صبيٌّ في الثالثة عشر من عمرهِ أنْ يفهمَ ما يتكلمُ عنهُ أفلاطون، أو ما كتبهُ بودلير، أو شكسبير، أو يفهمَ حتى فلسفة المعري،  أو حِكَمَ المتنبّي، وهنا أقصدُ إبراهيم ناجي. عندما كتب قصيدتَه" إني ذكرتك باكياً والأفق مغبر الجبين..." ونشرَ نزار قباني ديوانَهُ الأولَ وهو طالبٌ في الجامعة،  والمثال الأوضح والحجة الدامغة أن كل شعر الشابي كتبه قبل عمر 25، طبعاً مع عدم تجاهل ثقافتهم، وتميّزهم في القراءة وذكائهم وحدة عاطفتهم ، ونرجعُ للسؤال ، مع علاقة الشعر بين وعي الإنسان من خلال القراءة المتعمّقة،  وبين وعي الشاعر بذاته،  ومن حوله وبأحاسيسه وعواطفه ، أليست قراءة الإنسان الكثيرة تحُدُّ دون كتابةِ الشّعر؟ وكما رأينا بعض الشعراء كيف لجؤوا إلى الرواية،  لبثّ أفكارهم والتعبير عنها وعن عوفهم ربما في فضاءٍ أوسع، ألم يكن ديوانُ نزار قباني الذي كتبهُ في صباه يكادُ يكونُ الأمتع والأجمل؟ ألم يكن ديوانُ غازي القصيبي 'قطرات من ظمأ ' أيضا أرقَّ شعرٍ كتبهُ على الإطلاق؟  وقد ذاعَ شعرُ الشابي الذي كتبه في بداية العشرينات، ألمْ يكتبْ طرفةُ بن العبد معلقتَهُ في نفس عمر الشّابي أيضا، وهنا ونحن نتكلم عن كتابة الشعر خاصة، وليس كل الأجناس الأدبية الأخرى، أليست كتابة الشعر ضرب من الخيال حيث تعتمدُ اعتمادا كبيراً على ذكاء وحدّة مشاعر الشخص مع إلمام بالطبع باللغة، وبمفاتيح كتابة الشعر،  يحدو ذلك كلَّه نوعٌ من الجنون،  كما قال نزار قباني:" إن الجنونَ وراء نصفِ قصائدي.." إنني لا أنكر هنا دورَ القراءة والاطلاع في تكوين شخصية الشاعر ولا دورَ التجارب في صقل موهبته ولكن أليس هناك من قرأ مئات الكتب في الحكمة، وعايش الكثيرَ من التّجارب، ولم يقلْ بيتاً واحداً في الحكمة .بينما يقولُ الشاعر بيتاً تسير به الرّكبان، وهو ما زالَ في العشرينات، بل وأقل من ذلك، هل الشعرُ وحيٌ يتنزّل أم عبقريّة تولدُ مع الشاعر، كل هذه الأسئلة تتطلع لأجوبة وهي غير موجودة ولكن السّؤال المحيّر أكثر لماذا يصر من يرعى نشر الدواوين الشعرية أو المسابقات الشعرية، على وجود معايير محددة في القصائد أو الدوايون مثلما ذكرنا سابقاً، بل كيف تكاد أن تختفي إنْ لم تختفِ تماماً حالةَ أنَّ شاعراً في الثامنة عشر أو التاسعة عشر ، ينشرُ ديوانا أو تنشر له قصائد، أو يحتفى به وبإبداعه، أليس ذروة الابداع الشعري هي في هذا العمر وبعدها يكون الشاعر محملاً بأغلال وقيود تحولُ دونه و دون الانطلاق بحرية، وقول ما يروق له بدون خوف الكبار؟ أليس عندما تلتقي اندفاعات الصبا، وجنون الطفولة، وحماقة الشباب، مع اللغة الراقية يولدُ المستحيلُ وتتفجر ينابيعُ الإبداع بلا قيود؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق