لم يسبق و أن أخبرت أحدا بهذا، لكن حصولي على تلك الشقة لم يكن أقل من معجزة.
كل ما عرفته عن لورا، كان أنها تعمل في دوام جزئي، بإحدى مكاتب المالك بالطابق الأول. وأن قُبلتها تشبه رقصة التانجو..
التقيت بها في إحدى ليالي شهر يوليو، حينما كانت السماوات التي تغطي برشلونة، تلتهب بأزيز البخار و اليأس.
كنت نائما على مقعد في ساحة قريبة، حين استيقظت على مسحة شفتيها..
"هل ما زلت بحاجة إلى مكان تمكث فيه؟"
اقتادتني إلى مدخل الردهة، كان المبنى واحدا من تلك الأضرحة العمودية التي تطارد المدينة القديمة. متاهة من التماثيل المرعبة و بعض الأبنية المرقعة التي لايزال تاريخ بنائها مدونا في الأعلى.. 1866 مدفونة في مكان ما تحت طبقة من بقايا الدخان الأسود .
لحقت بها إلى الطابق العلوي، أتحسس طريقي في الظلام.. كانت خطواتي تحدث صريرا في المبنى كما لو كنت في سفينة مهجورة..
لم تسألني لورا أبدا عن أي ضمانات أو معلومات شخصية أو مالية حتى، و هذا ما ناسبني جدا، فالسجن لم يكن ليمنحنا أيا منها..
كانت العلية بنفس مساحة زنزانتي، غرفة منعزلة تطفو على سطح عالم لا ينتهي، يطل على المدينة القديمة.
أجبت و علامات الرضى موثقة على ملامحي
"سآخذها"
الحق يقال، كانت السنوات الثلاث التي قضيتها في السجن كافية للقضاء على حاسة الشم لدي، و حتى الأصوات التي تتسرب عبر الجدران، لم تكن بالأمر الجديد عندي..
جحيم أحدهم لم يكن أكثر من جنة فقدها آخر..
كانت لورا تزورني في كل ليلة، جلدها البارد و أنفاسها ذات البخار، كانا الشيء الوحيد الذي لم يشتعل خلال هذا الصيف الحارق.. و ما إن يحل الفجر حتى تقوم بهدوء لتختفي أسفل الدرج، و تتركني لأغفى طوال النهار..
أما الجيران ، فكانت سنوات البؤس و النسيان قد أكسبتهم الكثير من اللطف و الوداعة.
قمت بعدّ ست عائلات، كلهم لديهم أطفال و كهول تفوح منهم رائحة الزهور الميتة و التربة الرطبة..
أما المفضل عندي من بينهم جميعا فهو "السيد فلوريان" الذي كان يعيش أسفل غرفتي مباشرة. و يدبر قوت يومه من خلال صباغته للدمى و ألعاب القصدير.
أمضيت عدة أسابيع دون أن أتجرأ على الخروج من البناية. نسجت العناكب زخرفات أرابيسك على مدخل غرفتي، لكن هذا لم يمنع السيدة لويزا، القاطنة بالطابق الثالث، من جلب الطعام لي بشكل يومي.. أما السيد فلوريان فلم يتوانى عن إقراضي مجلاته القديمة بل أنه صار يتحداني في مباريات دومينو لا تنتهي.. في ما قام أطفال البناية ، بدعوتي باستمرار لمشاركتهم لعبة الغميضة.
كانت حياة جميلة، و لأول مرة في حياتي، شعرت بأنني مرحب بي، و أكثر من هذا، شعرت أن لوجودي قيمة.
مع حلول منتصف كل ليلة، تزورني لورا حاملة معها سنواتها التسعة عشر، ملفوفة في حرير أبيض. كانت تمنحني نفسها كل مرة كما لو كانت المرة الأخيرة.
مارست معها الحب حتى طلوع الفجر.. تذوقت في جسدها ، كل ما حرمتني منه الحياة، و بعد الانتهاء أنغمس في أحلام مصورة بالأبيض و الأسود، كما يحدث للكلاب، و الأشخاص المصابين باللعنة..
بيني و بين نفسي، فكرت أن حتى الأدنى من كل ما هو أدنى، بإمكانه أن ينعم ببعض السعادة في هذا العالم.. و هذا الصيف، كان صيفي.
عندما حضر الموظفون المكلفون بالهدم في أواخر أغسطس، اعتقدتهم في بادئ الأمر رجال شرطة. حاول كبير المهندسين طمأنتي و هو يحاول إقناعي بأنه لا يحمل شيئا شخصيا تجاه من يحتلون الملك العمومي بشكل غير قانوني، لكنهم ملزمون بتفجير المكان و هدمه عن آخره مهما كلفهم الأمر.
قلت و الحيرة تتملكني
" لا بد و أن هناك خطأ ما"
معظم فصول حياتي، كانت تبدأ بهذه الجملة..
ركضت إلى الطابق الأول حيث مكتب المالك باحثا عن لورا، لكني تفاجأت أن لا شيء هناك عدا شماعة معاطف و بوصتين من الغبار المتراص.. عدت مسرعا إلى مسكن السيد فلوريان، فوجدت قرابة خمسين دمية لا عيون لها.. متعفنة في الظلال..
جريت في كل أنحاء البناية ، وكلي أمل أن أجد ولو جارا واحدا، ولو صوتا واحدا.. لكن كل ما اصطدمت به كان ممرات صامتة مغطاة بالحطام..
"هذه البناية ، أخليت منذ سنة 1938 أيها الشاب" أفصح كبير المهندسين.. ثم أردف " القذيفة دمرت هيكل البناية بأسره دون أدنى أمل لإعادة إصلاحها"
أذكر أننا تراشقنا ببضع كلمات، ذات الطابع البذيء.. الذي يشبهني..
أذكر أيضا أنني قمت بدفعه إلى أسفل الدرج بقوة..
هذه المرة، كان القاضي مستمتعا أكثر بمحاكمتي.. ولدهشتي وجدت زملائي في الزنزانة بانتظاري يهللون
"أنت دائما تعود إلى هنا، أينما سار بك الحال"
عثر هرمان ، المسؤول عن المكتبة ، على مقال بجريدة قديمة تعود إلى عشر سنوات مضت ، يخص انفجارا حدث أثناء الحرب الأهلية..
نظرت إلى الصورة المصاحبة له ، حيث اصطفت الجثث في توابيت الصنوبر، و قد شوهتها الشظايا.. لكني استطعت تمييزهم كلهم.
وضعت أحد الأكفان الملطخة بالدماء فوق بعض الحجارة المتراصة.. لمحت لورا ممددة عليها، كانت ترتدي فستانا أبيضا و تضم يديها إلى صدرها المفجّر..
مرت تقريبا سنتان، لكنك حين تكون في السجن، قد تحييك الذكريات أو تقتلك ..
يعتقد الحراس أنهم يقظون، لكنها تعرف جيدا كيف تتسلل إليّ، عبر أيّ جدار من الجدران.
توقظني مسحة شفتيها المثلجة عند منتصف كل ليلة، حاملة معها التحية من السيد فلوريان و الآخرين.
"ستحبني دائما أليس كذلك؟" تهمس لي..
فأجيبها بخضوع " أجل.. دائما.."
"القبلة"
كارلوس زافون
✍🏻 ترجمة وسام عمروس

عمل متقن و مجهود في المزج بين الترجمة و سرد الأحداث
ردحذف