فضاء ثقافي يحتفي بجماليات الأدب العربي. نقدم في هارموني الحروف دراسات نقدية، نصوصا سردية (قصص قصيرة وتجريبية)، وشعرا مرهفا. نغوص في فلسفة الأدب وتحليل الخطاب لنصنع محتوى خالدا. انضم إلينا لتبادل الرؤى في واحة الفكر والإبداع.

السِّيَاقُ وَدَوْرُهُ فِي اخْتِلاَفِ دَلاَلَةِ الأَلْفَاظِ الْقُرْآنِيةِ، دِرَاسَةٌ مُقَارِنَةٌ بَيْنَ بَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِيَةِ | سعيد زكودي

 

مجلة هارموني الحروف

يلعب السياق دورا مهما في بيان سبب اختيار لفظة دون أخرى وعلة انتقاء تعبير بدل تعبير آخر وهكذا.وهو"من ألزم الأمور للمفسر عموما وللمفسر البياني على وجه الخصوص[...] والسياق من أهم القرائن التي تدل على المعنى"¹.من هذا المنطلق تتغيى هذه الورقة البحثية الموسومة ب"السياق ودوره في اختلاف دلالة الألفاظ القرآنية، دراسة مقارنة بين بعض المفردات القرآنية" إلى تسليط الضوء على الدور الذي يضطلع به السياق في القرآن في اختلاف اختيار الألفاظ القرآنية ودلالتها، وذلك من خلال إقامة مقارنة بين بعض المفردات القرآنية. ولا ندعي الإحاطة بالموضوع والعلم به، بل حسبنا ماذهب إليه المختصون في هذا الباب، ونحن على نهجهم سائرون كما أننا على اقتناع تام أن ماتتضمنه هذه الورقة ماهو إلا مجهود متواضع بالقياس لما عالجه أصحاب التفسير البياني، ونخص بالذكر هنا العلامة الدكتور فاضل صالح السامرائي الذي كان له عظيم الفضل في تفسير كتاب الله تفسيرا تُقَرَّبُ به المعاني إلى القلوب وتُعرَف به الأحكام وتُدرَك به المقاصد، والله من وراء القصد.

مما لاشك فيه أن كتاب الله الحكيم حافل بالمعاني الساحرة وبالأسرار البيانية اللامنتهية، ومن أهم سماته المميزة أنه كلام إعجازي ليس كمثله كلام ولاوجود لنظير له، وقد تحدى اللهُ العربَ أن يأتوا بمثله ونقف على هذا الأمر من خلال قوله تعالى ﴿أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين﴾ [هود، الآية ١٣] وكذا قوله سبحانه في [سورة الطور، الآية٣٣]﴿ أم يقولون تقوله بل لايومنون﴾. إن مظاهر البيان القرآني متعددة المواطن ويصعب الإحاطة بها جميعها، وقد اخترنا الوقوف عند البناء المفرد في التعبير القرآني، وقمنا في هذا الصدد بانتقاء الكلمات التالية؛ بالنسبة للأفعال(أتى،جاء)، في حين اكتفينا ب(البحر،اليم) بالنسبة للأسماء. وستكون هذه الكلمات مدار دراستنا هذه.

يقول الراغب الأصفهاني: "الإتيان مجيء بالسهولة، ومنه قيل للسيل المار على وجهه أتي" وقال أيضا"المجيء كالإتيان، لكن المجيء أعم لأن الإتيان مجيء بسهولة"². يتضح من خلال قول الراغب أن الإتيان يرتبط بالسهولة، في حين يتصل المجيء بالمشقة. وسنحاول استشفاف هذا المعنى انطلاقا من ورود هذه الأفعال في التنزيل الحكيم.

 لقد راعى البيان الإلهي المقام في تعبيراته مراعاة منقطعة النظير يندر إيجاد مثيل لها، فهو "يستعمل المجيء لما فيه صعوبة ومشقة، أو لما هو أصعب وأشق لما تستعمل له (أتى)، فهو يقول مثلا:﴿ فإذا جاء أمرنا وفار التنور﴾ [المؤمنون،٢٧]، وذلك لأن المجيء فيه مشقة وشدة. وقال: ﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق﴾ [ق،١٩]، وقال: ﴿ لقد جئت شيئا إمرا﴾ [الكهف،٧١]، وقال: ﴿ قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا﴾ [مريم،٢٧]، وقال: ﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إداً تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا﴾ [مريم،٩٠]، وقال: ﴿ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا﴾ [الإسراء،٨١]وقال: ﴿ فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه﴾ [عبس،٣٤،٣٣]، وقال: ﴿ فإذا جاءت الطامة الكبرى﴾ [النازعات،٣٤]. وهذا كله مما فيه صعوبة ومشقة."³

ولتوضيح الأمر أكثر نورد بعضا من الآيات المتشابهة التي تضمنت الفعلين؛ يقول الله عز وجل في أواخر سورة يوسف:  ﴿ حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولايرد بأسنا عن القوم المجرمين﴾ [يوسف،١١٠]، وقوله:﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ماكذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين﴾ [الأنعام،٣٤]. فقال في آية يوسف ﴿جاءهم نصرنا﴾، وفي آية الأنعام ﴿أتاهم نصرنا﴾"ومن الواضح أن الحالة الأولى أشق وأصعب، وذلك أن الرسل بلغوا درجة الاستيئاس وهي أبعد وأبلغ، وذهب بهم الظن إلى أنهم كذبوا فيما ظنوا، وهذا أبلغ درجات اليأس وأبعدها، وعند ذاك جاءهم نصره سبحانه فنجي من شاء وعوقب المجرمون.في حين ذكر في الآية الأخرى أنهم كذبوا، أي: كذبهم الكافرون وأوذوا فصبروا. وفرق بعيد بين الحالتين، فلقد يكذب الرسل وأتباعهم ويؤذون ولكن الوصول إلى درجة اليأس والظن بالله الظنون البعيدة أمر كبير. ثم انظر إلى خاتمة الآيتين تر الفرق واضحاً، فما ذكره من نجاة للمؤمنين ونزول البأس على الكافرين في آية يوسف مما لا تجده في آية الأنعام يدلك على الفرق بينهما."⁴

بالتالي يتضح أن القرآن يوظف الفعل جاء للمواقف التي تتسم بالمشقة والصعوبة، بينما يستعمل الفعل أتى لما فيه سهولة ويسر."ولعل من أسباب ذلك أن الفعل (جاء) أثقل من (أتى) في اللفظ، بدليل أنه لم يرد في القرآن فعل مضارع ل(جاء) ولا أمر ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول، ولم يرد إلا الماضي وحده، بخلاف (أتى) الذي وردت كل تصريفاته، فقد ورد منه الماضي والمضارع والمر واسم الفاعل واسم المفعول. فناسب بين ثقل اللفظ وثقل الموقف في (جاء) وخفة اللفظ وخفة الموقف في (أتى) والله أعلم."⁵

أشرنا سابقا إلى أن دراستنا هذه ستشتغل على طبقة الأفعال وطبقة الأسماء، واخترنا من هذه الأخيرة اسمين وهما(البحر،اليم)؛ وقد استعمل التعبير القرآني الكلمتين معا في مواضع مختلفة، بيد أن مايلفت الانتباه هو استعمال اللفظين في مقامين تعبيريين متشابهين."فإنه مرة يستعمل البحر ومرة يستعمل اليم. قال تعالى ﴿فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر﴾ [الشعراء،٦٣] وقال في فرعون ﴿فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم﴾ [القصص،٤٠]"⁶ فما خصوصية توظيف اللفظين في موضعين مختلفين على اعتبار أن القصة واحدة(قصة النبي موسى عليه السلام).تجدر الإشارة هنا إلى أن كلمة اليم كلمة عبرية الأصل، وقد"وردت كلمة اليم في القرآن الكريم ثماني مرات وكلها في قصة موسى. ولم ترد في غير هذه القصة، وهو من لطيف الاستعمال، فقد استعمل الكلمة العبرانية في قصة موسى وقومه وهم العبرانيون. أما كلمة (البحر) فقد استعملت في قصة موسى وفي غيرها من المواطن."⁷

ومن الآيات التي وردت كلمة اليم فيها قوله تعالى في سورة [القصص،٧]﴿ فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني﴾ وفي سورة [طه،٣٩،٣٨] ﴿ إذ أوحينا إلى أمك مايوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم﴾. وقوله أيضا في نفس السورة﴿فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ماغشيهم﴾ [٧٨]. وقال سبحانه في سورة [الأعراف،١٣٦] ﴿ فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم﴾. "ومن الملاحظ في استعمال هاتين الكلمتين أنه لم يستعمل (اليم) إلا في مقام العقوبة أو الخوف، ولم يستعملها في مقام النجاة[...] أما (البحر) فقد استعمله عاما في النعم وغيرها، في بني إسرائيل وغيرهم. قال تعالى ﴿والفلك تجري في البحر بما ينفع الناس﴾ [البقرة،١٦٤] وقال﴿وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه﴾ [الإسراء،٦٧] وقد استعمل في مقام نجاة بني إسرائيل (البحر) ولم يستعمل (اليم). لقد استعمل (البحر) في النجاة والإغراق، أما (اليم) فاستعمله في الإغراق والخوف ولم يستعمله في النجاة."⁸

في الختام، سنعمل على مراكبة المعطيات الواردة أعلاه قصد الخروج بخلاصة عامة لما تم التطرق له. من هذا المنطلق نقول: 

- إن السياق يضطلع بدور مهم في التعبير القرآني ويتجلى هذا الأمر فيما تعلق باختيار الألفاظ من موضع لآخر حسب الدلالة المراد تبليغها والموقف الذي ترد فيه.

- يوظف التعبير القرآني الفعل(جاء) في المواقف الصعبة، بينما يورد الفعل (أتى) في المواقف اليسيرة، ويفسر السامرائي ذلك بأن الفعل (جاء) أثقل من ناحية اللفظ وهو مادعا إلى استعماله في ثقل الموقف، في حين يتميز الفعل (أتى) بخفة لفظه وهو ما يتواءم مع خفة الموقف، لذلك وظف في المواقف اليسيرة.

- استعمل  النص القرآني كلمة (اليم) في مقام العقوبة والخوف، بينما تم توظيف(البحر) توظيفا عاما في النعم وفي مواضع أخرى كالنجاة الإغراق.

هوامش الدراسة:



الإحالات:

إحالة ١: على طريق التفسير البياني،  الدكتورفاضل صالح السامرائي، ج١،ص١٤.

إحالة٢: المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، صص١٠٢,٦.

إحالة٣: لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، الدكتور فاضل صالح السامرائي ،صص١١٥،١١٤.

إحالة٤: المرجع نفسه،ص١١٦.

إحالة٥: المرجع نفسه،ص١٢٢.

إحالة٦: من أسرار البيان القرآني، الدكتور فاضل صالح السامرائي، ص٥٠.

إحالة٧: المرجع نفسه، ص٥١.

إحالة٨: المرجع نفسه،صص٥٢،٥١.

مسرد المصادر والمراجع:

-القرآن الكريم، رواية ورش عن نافع.

-المفردات في غريب القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، طهران.

-على طريق التفسير البياني، الدكتور فاضل صالح السامرائي، ط١،ج١، دار ابن كثير، دمشق، ١٤٣٨ه-٢٠١٨م.

-لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، الدكتور فاضل صالح السامرائي، ط٣، دار ابن كثير، دمشق، ١٤٣٩ه-٢٠١٨م.

-من أسرار البيان القرآني، الدكتور فاضل صالح السامرائي، ط٢، دار ابن كثير، دمشق، ١٤٤٠ه-٢٠١٩م.

هناك 4 تعليقات:

  1. مقال رائع , أحببت قراءته !

    ردحذف
  2. مقالة ممتعة العيب فيها أنها كانت قصيرة، وفقكم الله وسدد خطاكم أخي

    ردحذف