كرر الكلام:
أنا هنا للمساعدة يا سيدي، فقط خذ نفس عميق، استرخي قليلًا صدقني خصص
هذا المكان للاسترخاء.
اللون البني يحاوطني من كل الاتجاهات، الكرسي المريح، المسافة التي
تبعدني عن ذلك الطبيب، لوحة الطفل المبتسم! بيئة مثالية للفضفضة...
حاول بقدر المستطاع أن يجعلني ارخي أعصابي، لكي استرسل بالحديث معه!
لحظة لحظة أي حديث؟ لم أرد السلام حتىّ!
طوال الوقت عيوني تبصر، والهواء يدخل إلى جوفي. هذا ما يميزني عن
دمية أتحرك مثلها كما توجهني الأيادي. فاقد النطق، ميت القلب، تارك الحياة
قبل موتي...
سقطَ نظري على الطبيب، عيونه تحمل الشفقة ماذا لو عرف الحقيقة؟ أي
نظرات سيرمقني؟
اشمئزاز؟ وهل العطف يتحول إلى تقزز ؟.
أملك الخطايا أيتها العيون، وما في سري يغير ذلك الكلام ( أنا هنا
للمساعدة ياسيدي).
تعالت ضحكاتي المجنونة، وأنا أردّ في عقلي ربمّا سيقول: لماذا فعلت هكذا؟
ما ذنب تلك الطيور؟
قام من مكانه، وأتى بقربي، يقدمّ يده لِيعطيني الماء مع منديل لأمسح
دموعي، لكن كيف سامحي ضحكاتي ؟ قلت له ولأول مرّة:
-تقدم لي الماء، وأنا مَن قصَّ أجنحة الطيور؟ أنتَ مجنون؟!
جلس بجاني يواسي جنوني:
سيدي صدقني أنا هنا للمساعدة فقط تحدث معي ماذا حدث في تلك الليلة
أجبني؟
-كُسِرتْ قارورةٌ.
-ابنتك؟
قلتَ بقهقهة مُفرطه تحمل بكاءًا عارمًا. امتزج الدمع مع الضحك في
منظرٍ يخبر سكان الأرض إني مجنون؟
أجل، لاح عمري الخمسينات وأصبحت عجوزًا ثريًا
يقولون عنه: يحُّب المال حبًا جمّا، إنّه يعبد المال!
صاحب الثراء، مغرور النفس، أنفه لا ينكسر أمام أي أحدٍ، أتلاعبُ
بأجسادهم، وأسكتهم بمالي...
تعلم شيِ ربما ولدت بلا قلب ؟ لكن لماذا ما زلت على قيد الحياة ؟ من
أين يأتي النبض أيعقل أنها أموالي؟
في هذه اللحظة ساد صمتي بعدما شعرت بالهواء البارد يلامس هيئتي.
قال الطبيب:
-لماذا توقفت عن التحدث ؟
-اتلذذ بالهواء البارد، فالهاوية ستأتي لا محال ...
لكن كيف سألتقي بقارورتي؟ أريد أن أركع أمام قدميها اعتذر لها ولجميع
الطيور. سأخبرك بسرٍّ...
عند الساعة الرابعة فجر يوم الجمعة أغمضت عيني بعد أرقٍ دام ثمانية وثلاثين ساعة حتى وجدت ابنتي الصغيرة
ذات العشر سنوات، تمد يدها لي وتقول: تعال أبي هيا تعال.
كانت كالطائر تملك أجنحةً من ريش، وخلفها النعيم مباشرةً بين الغيوم
تقف بثوبها الناصع بالبياض، وتمدُّ يدها البيضاء؛ لأمسك بها.
ذهبتَ متلهفًا لها، حتى ظهرَ مجموعةٌ من الأطفال يمسكون بي يمنعوني من
الوصول إليها، وأنا أحاول الهرب منهم حتّى اطاحوا بي في الهاوية، والنار تأكل
جسدي، وأنا استغيث بأحد ينقذني وارى نظرات كل طفل فيهم، حتى غابت روحي عن وعيها.
واستيقظ مرةً أخرى، ويرمون بي من جديد ويعود الألم نفسه، ومن شدت
الوجع أفقد توازني وأغمض عيوني للاستسلام.
حتّى أيقظني ابني الكبير ، فطاح في مسمعي صوت الآذان ...
انهمرت دموعي على لحيتي، وابني يحاول فهم ما جرى، أردتُ أن أقول له
افرشْ لي سجادة الصلاة فشعرت بالخجل، كيف أقول له علمني الصلاة هل أنا الاب أم
هو؟!
-ثم ماذا حدث؟
- تعلم أنتَ امتنعت عن الكلام منذ موت ابنتي فلم أقل شيئًا وغادر مَن
الحجرة.
أتى ذلك الصوت تك تاك تك تاك...
إنها الساعة تعلن عن انتهاء وقت الجلسة. دخل ابني إلى الحجرة، وقادني
إلى قصري إنّه المنزل الأضخم في الحي . تركت يد ابني ودخلت إلى غرفتي قفلت بابها.
غرفة طغى عليها اللون الذهبي، لون حماقتي.
فتحت خزانتي ورميتَ جميع الأوراق تلك الأوراق الباهضة التي طمعت فيها.
جلست بين النقود غارقًا بهمها.
حتّى دخل ابني الحجرة كان يحمل نسخةً أخرى من مفتاح الحجرة.
امسكني وكأنه يحرك لعبته وضعني على السرير وطلب مني أن أضع رأسي على
الوسادة. نفذت الكلام وأنا أنظر إلى ميل الساعة يتحرّك مُعلنًا عن انتهاء ساعة خلف
الأخرى، وفجأة أصبحت التاسعة صباحًا كيف لهذا أن يحدث لم تكن ساعات إنها كاذبةٌ!
ذهبنا إلى ذلك الطبيب كان سعيدًا لرؤيتي...
قالَ:
-كيف حالكَ يا عمي أنا سعيد لِقدومك. لم أرد عليه
ثم واصل الحديث بلا تململً ما يعجبني به إصراره ليجعلني أتكلم، فأقوم
أنا الآخر بالضحك والبكاء أمامه كأني أبله.
-نكمل حديت البارحة.
قلت وأنا انظر إلى ابتسامة الطفل ...
-أنا املك النقود لكن لا أحد يعلم من اين أحصل عليها؟
-مِن أين تحصل عليها؟
-لا دخل لكَ.
ساد صمتي هذه المرة لمدة طويلة، عجز عن التحدث معي وكأنه علمَ إن
سؤاله الفضولي أتى في غير وقتهِ ...
ما زلت أبحلق في تلك الصورة، فجأة رأيت نفسي!
شعري طويل أبيض اللون، ولحيتي كذلك، توجد بركهَ غامقة حول عيوني،
وشفتي تختفي تمامًا تحت شاربي!
نظرت له بغضب:
-لماذا تضع المرآة أمام هيئتي .
أشار بإصبعه إلى وسط المرآة ثم قال بلطف:
-ماذا ترى هنا؟
-طفل صغير يريد تلك اللعبة فراح إلى والده عسى وأن يشتري له تلك
اللعبة، فكان الرد صفعة على خده!
سقطَ في أحضان امرأه فشعرَ كأنه استنشق عطر الفردوس...
واستمر ذلك الحال مع الأب القاسي، لا لا أخطأت في تسميته أنه البخيل
القاسي!
وتلك الأم تهون عليه ما يحدث.
توقفت الساعة فجأة ولم تتحرك أعلنت عن رحيل أمي إلى النعيم وحدها!
وأنا في العشرين من عمري تزوجت.
وتركتَ البخيل وحده يعاني، حتّى توفى ذات ليلة تحيط بجثته كؤوس
النبيذ.
ولد ولدي الأوّل ونحن نعاني من الفقر و الجوع
ذات يوم التقيت برجل سيماه في هيئته قبيح النفس، و نتن القلب لديه
محل لبيع الملابس اشتغلت معه، حتّى تقرَّب
مني أكثر وأكثر...
وكان يعطيني النقود كما أشاء، ومن هنا زرع الطمع في قلبي فأصبحت عبدًا
له أنفذ ما يقول...
وذات ليلة طلب مني أن أخطف طفلةً صغيرةً، في بداية الأمر رفضتَ: فقلت
الأموال.
وافقت واختطفت الطفلة أخذها ذلك اللعين إلى مستودع في منطقة مخيفة
خارج المدينة، قام بتقطيع جسد الطفلة يفصل: القلب، والكبد، والطحال والرئتين، كل
شيء!
علمت حينها إنّه يتاجر بأعضاء الأطفال...
أخرج من الخزانة حقيبة مملوءة بالأموال أعطاها لي وأنا جامد الأطراف
لا اتحرك! عيوني لا ترمش.
كيف تحملت هذا المنظر لا أعلم؟
لم أخذ المال قال لي:
-صدقني إنها الآن في الجنة لماذا تعيش في هذا العالم القاسي، تعاني من
الفقر.
رحلت بلا ألمٍ خدَّرت جسدها، لاحظت لم تسمع صرخاتها كانت هادئة تمامًا
كالدمية !
هربت من المكان مسرعًا، وظل هو الآخر يلاحقني ويمطر الأموال في منزلي،
طمعت فوافقت!
أصبحت أخطف الأطفال، من أهلهم ثم نفكّ أجسادهم كان طبيبًا ماهرًا!
اللعنة على تفكيري.
تعلم في ذلك اليوم حملت زوجتي...
كانت فَرحًة ترتدي ما تشاء من الحلي والمجوهرات
وبيتنا تحوّل إلى قصر! انجبت فتاة واصبحنا عائلة ثرية!
أصبح نتن القلب عجوزًا.
وكبر العمل، أصبح لدينا فريق للخطف، دكاترة ماهرين في تشريح...
ذات يوم في المخزن خطفوا مجموعة من الأطفال شقو بطونهم أخذوا اعضائهم.
و أنا انظر إلى ملامحهم وجدت روحي هناك قارورتي. أخذوا قلبها فككوا جسدها!
وبقى منها الوجه سليم!...
ثم دقّت الساعة تك تاك تك تاك وقف قلب الرجل الثري...
✍️نبأ ميثم سليمان، كاتبة عراقية

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق