الكاتبة المتميزة فوز أبو سنينة،
يسرنا في مجلة "هارموني الحروف" أن نعبر لكم عن تقديرنا العميق لتجربتكم الإبداعية الثرية، وخاصة لإصداركم القصصي اللافت "سجون خاصة"، بما يحمله من كثافة إنسانية، وغنى سردي ورمزي يلامس القارئ في عمقه الوجودي.
ضمن ملف نعدّه حول
"التناغم في الكتابة"، يسعدنا أن نستضيفكم في هذا الحوار الذي نحاول من
خلاله الاقتراب من الرؤية الجمالية والفكرية التي تقف خلف عملكم. نرفق لكم باقة من
الأسئلة راجين أن تجد لديكم صدى وتفاعلا.
1. لو اعتبرنا كل كاتب موسيقيا، فما نوع الموسيقى التي تعتقدين أن "سجون خاصة" تعزفها؟ هل هي موسيقى منفلتة، حزينة، هادئة...؟
أعتقد أن "سجون خاصة" تعزف الموسيقى الكلاسيكية؛ لأنها تنطق بما في داخلنا وما نعانيه في غياهب قلوبنا وأرواحنا، وعلى وجه الخصوص، أراها سمفونية تتزامن فيها الآلات وتتداخل لتخلق صوتاً من الألم والمعاناة المتصاعدان، يشتبك في صراع داخلي وخارجي ليصل في كريشيندو إلى لحظة التحرر والانعتاق.
2. المجموعة تحمل عنوانا ذا دلالة ثقيلة: "سجون خاصة". هل يمكنك أن تحدثينا عن الدافع وراء هذا الاختيار؟ وهل هناك سجن شخصي بين طيات النصوص؟
عندما بدأت بكتابة المجموعة كانت الفكرة لدي هي تسليط الضوء على شخصيات كثيرة تعيش بيننا، نعرفهم، وربما كانوا انعكاساً لنا في مرآة الحياة، أردت أن أرسم صورة لحياتهم، وأجعلهم ينقلبون على سجانيهم ويقلبون هذا التهميش لمشاعرهم ومعاناتهم؛ سواء تلك التي فرضوها على أنفسهم أو فرضها عليهم المجتمع. فالعنوان- كما هو الآن - لم يأتِ إلا بعد أن انتهيت من الكتابة، وتنقلت في المراجعة بين كلمات المجموعة لأجدني أدخل بين قضبان لا أراها لكنها تسكنني. ظننت أنني بكتابتها أتحرر من سجوني الخاصة واتركها خلفي، لكنها عاندتني ولازمتني حتى بنيتُ جسراً خاصاً بيننا ونوافذ تطل منها علي وأطل منها عليها.
3. تتنوع السجون في القصص بين الوجودي، النفسي، العاطفي والاجتماعي. هل كان هذا التنوع مقصودا منذ البداية؟
أعتقد أنه لا يمكننا أن نتحدث عن السجون دون أن نتطرق إلى آثارها علينا وعلى حياتنا، وإلى ما تعنيه السجون في الأساس وما تفعله بنا. السجون تخنق وجودنا سواء كان ذلك بالمعنى الحرفي أو المجازي. السجون تقتل فينا العواطف تجاه أنفسنا قبل أن تقتلها تجاه الآخرين، تحرق كياننا النفسي، وتزرع في داخلنا دوامة من المعاناة النفسية حتى تتركنا مسلوخين عن واقعنا وعن وجودنا الاجتماعي. وقد يكون تنوع السجون في القصص هو ترجمة لحالة السجن، ولأسبابها، ولتبعاتها وما تخلقه من أزمات وجودية ونفسية وعاطفية واجتماعية.
4. هل تمثل كل قصة في نظرك مفتاحا لفهم "سجن ما" داخل الإنسان؟ وأي قصة ترينها تمثّل قلب المجموعة؟
كل قصة من قصص المجموعة تمثل سجناً ما يعيشه بعض الناس، تشرع القصص للإضاءة على الوجع الداخلي والخارجي للشخصيات في محاولة لخلق ثورة أو صراع تحصل من خلاله الشخصية على المفتاح المناسب للتحرر. المجموعة لا تقدم مفاتيح للقارئ لكنها تتآمر معه ليجد مفتاح خلاصه الخاص. إنه من الصعب عليّ اختيار قصة لتمثل قلباً للمجموعة، ففي ذلك انتقاص من آلام باقي السجون والشخصيات، لكن لكل قارئ الحق في اختيار قلب المجموعة بناء على السجن الذي يعبر عنه وعن معاناته، وما يسعدني فعلاً هو معرفة القصة الأقرب لقلب كل قارئ.
5. تبدو اللغة في "سجون خاصة" مزيجا من السرد والتكثيف الشعري. كيف توازنين بين السرد والتجريب اللغوي؟
أعتقد أن الكاتب هو في حالة مستمرة من البحث في عمق الذات عن طرق جديدة ومصطلحات مختلفة يعيد فيها خلق نفسه وبعث أفكاره من جديد، وهو يفعل ذلك من باب شد القارئ وجعله قادراً على الانغماس في عوالم الكتاب. وفي سجون خاصة ربما كان التكثيف الشعري نابعاً من توحدي مع مشاعر الشخصيات وبؤسها ومعاناتها، بينما كان السرد هو المحرك الذي يدفع عجلة الصراع والتحرر إلى الأمام.
6. ما الرسالة التي تريدين توجيهها لقارئ مجموعتك؟
أحب أن أقول لكل المساجين على اختلاف سجونهم بأنكم لستم وحدكم، فألمكم يشارككم به الكثيرون، لذلك اكسروا القيد وتحرروا، فنحن نتشابه كثيراً رغم اختلافنا، و ما يجمعنا هو أكثر بكثير مما يفرقنا.
7. كيف ترين مستقبل القصة القصيرة اليوم في ظل طغيان الرواية؟ وهل تعتقدين أن السرد القصير أكثر قدرة على التعبير عن السجون الداخلية؟
أرى أن القصة القصيرة مظلومة بشكل ما في ظل الاحتكار الكبير للرواية، حتى أن بعض دور النشر لا تقبل بنشرها، لكن وبالرغم من ذلك تصدر دائماً مجموعات قصصية مهمة لقاصين مبدعين تلفت الأنظار إليها. لا أعتقد أن شكلاً أدبياً أصلح من غيره أو أكثر قدرة على التعبير عن شيء أو موضوع معين دون آخر، بل أرى أن ذلك يرجع إلى الكاتب والشكل الأدبي الأقرب إلى قلبه، فقد نتحدث عن السجون الداخلية في روايات مثل رواية الرجل النحيل لفرانس كافكا، أو في قصص قصيرة أوعن طريق الشعر كأشعار أبي العلاء المعري الذي حبس نفسه في القلق والعزلة.
8.في قصصكِ، نلمس حضورا قويا للهشاشة الإنسانية والصراع الداخلي. ما الذي يدفعكِ غالبا إلى طرق هذا العمق؟ وهل ترين في الكتابة وسيلة للنجاة أم للمواجهة؟
قبل أن أكتب، أبقى لأيام أتخيل الشخصيات، اتقمص مشاعرها، أتحدث بلسانها وكأنني على خشبة المسرح، حتى أراني هي فعلاً وأكتبها، أكتب هشاشتها وصراعاتها وصرخاتها، أربت على أكتافها وابتسم معها ولها عندما تتحدى نفسها وسجنها، ربما كان الحضور القوي لهشاشة الإنسان وصراعاته الداخلية الذي رأيته في القصص نابع من ذلك.
أما الكتابة فلا يمكن حصرها في دور واحد لأن لها أدوار عدة، فهي أحياناً تكون للكاتب وسيلة خلاص، وأحياناً أخرى وسيلة مواجهة، اعتراف، تدثر ووأد وحتى توثيق، الكتابة هي تلك اللوحة البيضاء أو ورقة النوتة الفارغة التي نمليها اللحن الذي يعبر عنا في وقت وزمان معينين.
9. نعلم أن النشر رحلة شاقة. كيف كانت تجربتك مع إصدار هذه المجموعة؟ وما أصعب لحظة مررت بها في هذه الرحلة؟
لم يكن إصدار المجموعة بالأمر الصعب كون هذه هي مجموعتي الثانية مع دار فضاءات للنشر والتوزيع. لكن المرحلة الأصعب في رحلة النشر تكمن فيما يأتي بعده، أي في تسويق الكتاب، في العمل على تعريف القراء به وتسليط الضوء عليه من خلال القراءات الأدبية والكتابات النقدية. لا يكفي أن تكتب كتاباً جميلاً إذا لم تتمكن من إيصاله إلى القراء.
10.أصدرتِ مجموعتين قصصيتين؛ الأولى بعنوان “كسرة من روح” عام 2023، والثانية “سجون خاصة” عام 2024 عن دار فضاءات. كيف ترين تطور تجربتك بين العملين؟ وهل هناك خيط خفي يربط بينهما؟
في الحقيقة، من يقرأ المجموعتين يجد فرقاً كبيراً بينهما، وبين تجربتي في الكتابة. كسرة من روح كان بوحاً من داخل الروح الأنثوية عن الغربة ومعاناتها، عن الوطن، والهوية والحنين واللغة والحب والاختلاف، كانت المجموعة مليئة بالمشاعر المباشرة المسكوبة بين الصفحات. بينما سجون خاصة فيها الكثير من الرمزية والمواربة، ولأستعمل كلماتك في سؤال سابق كسرة من روح كانت نجاة وسجون خاصة مواجهة وتحدي، والخيط الذي يربط بينهما هو صوتي المتدثر بين الكلمات.
11. كمبدعة، كيف ترين أهمية المنصات الأدبية مثل "هارموني الحروف" في دعم الأصوات الجديدة؟
أشكر جداَ منصة هارموني الحروف على ما تقوم به لدعم الكتاب الجدد، في وقت نجد فيه التركيز من المؤسسات الإعلامية الكبيرة على الكتاب الكبار والكتب التي تحظى بجوائز أو تكون ضمن ترشيحات قوائمها القصيرة، وفي ذلك حصر للذوق العام وتوجيه له. فنحن بحاجة إلى الكثير من المنصات كهارموني الحروف لإيصال أصواتنا وتسليط الضوء على كل المبدعات والمبدعين الذين يثرون الساحة الثقافية وينتظرون أن يأخذوا فرصتهم في الوسط الأدبي الكبير.
12. وأخيرا، لو طُلب منك أن تختاري عنوانا أدبيا مستوحى من "هارموني الحروف"، ماذا سيكون؟
أحب عنوان أوبرا القصص
أو أوبريت القصص، فلطالما فتنني هذا الفن في قدرته على خلق قصص نشعر بها جميعاً
وتؤثر فينا حتى لو لم نفهم اللغة المستعملة فوق خشبة المسرح.
وفي نهاية هذا المسار الأدبي، تبقى كلمات فوز نبضا حيا، وصدى داخليا يذكّرنا بأن الكتابة روحٌ تترجم صمت الحياة، وموسيقا تُعيد ترتيب عالمنا الداخلي. شكرا لها على هذا العطاء الذي يفتح نوافذ على ما هو أصيل، ويُذكرنا دوما بأن الجرأة على الكتابة هي الجرأة على رؤية العالم بعيون جديدة.
نشكرك جزيل الشكر
على تفضلك بالإجابة عن هذه الأسئلة، ونؤمن أن هذا الحوار سيفتح نافذة مضيئة
لقرائنا على عوالم مجموعتكم العميقة. كما يسعدنا أن نرفق الحوار بصورة لكم وسيرة
إبداعية موجزة.



ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق