سينما
مَن يعلمُ
ماذا يدورُ في عقولِ الأطفال؟ انتظرت بنتٌ صغيرةٌ خلودَ أمّها للنّومِ، نزلت
حافيةً بهدوءٍ عن سريرِها. أقفلتِ البابَ وراءَها. دخلتِ المطبخ، أعدّت الفوشار،
انتقلت إلى غرفة الجلوس، أشغلتِ التلفاز، أطفأتِ الأنوارَ وغلّقتِ الأبوابَ ثمّ
غفت على الأريكة. في اليوم التّالي، تبرّمتِ الأمُّ من الكركبة، بينما قصَّتِ
البنتُ على أصدقائها في المدرسة كيف يشعرُ المرءُ في صالةِ السّينما.
صُلح
الطّفلُ ذو
السّنة الواحدة من العمر، لا يحبُّ جارتَه في البناية. ربّما لضخامةِ صوتِها،
ربّما بسبب عينيها المُوَسَّعتَين بالكحلِ المُبالغِ فيه، ربّما لأنّها لا تتردّدُ
كثيرًا على منزله ... الحاصل أنّه يخافُها وقد أدركَت ذلك. حاولَت بشتّى الوسائل
أن تتقرَّبَ منه: بالرّشوةِ بالحلوى والسّكاكر، بالإغراء بالنّزهات، بالهدايا
المزخرفة بكلّ ما يستهوي الأطفال ... عبثًا. بعد عودتِها من عندِ طبيبِ العيون،
كانت ترتدي نظّارةً ذات إطارٍ أحمر اللّونِ فاقعه، ولمّا شاهدها، رمقَها بنظراتٍ
متفحّصةٍ دون أن يهربَ هذه المرّة، اقتربت منه، رفعته إلى حضنِها، مدّ يدّه إلى
النّظّارة، سحبَها برفقٍ ثمّ توارى خلف أمّه.
تسريحة
تكمنُ
المعجزةُ أحيانًا في الكلمات نفسِها. سيّدةٌ خمسينيّة في صالون التّجميل. فائقة
الجمال. تجاعيد خفيفة زحفت إلى وجهِها، لا بأس، كانت تزيدُها رونقًا وتضفي على
وجهِها هالةً من الوقارِ. كانت تبدو طبيعيّةً من غير تكلّف. المُصفّفة أنهَت
تصفيفَ شعر فتاةٍ عشرينيّة بتسريحةٍ لولبيّةٍ ذات لونٍ نحاسيٍّ برّاقٍ، ثمّ التفتت
إلى السّيّدة وهي تفكّ ضفيرتَها السّوداء الموشّحة بخصلاتٍ بيضاءَ وتضيف:
"التّسريحة نفسَها من فضلك، مع تقليم الأطراف." لم تفهمِ المصفّفة ماذا
أرادت، فصنعت لها تسريحة البنت السّابقة. ولمّا نظرت في المرآة في النّهاية، شهقت
قائلةً: "بحقّ السّماء، ماذا أفعل بعشرين عامًا من التّجارب التي صبغت روحي
بلون السّنين؟"
ثرثرة
اليوم
الجمعة. أمامي امرأةٌ تتمتمُ بسورةِ الكهفِ. على بُعدِ نصف مترٍ منها فقط امرأةٌ
أخرى تسندُ وجهها إلى ذراعيها شاردةً في لونَي العيادة النّفسيّة الأبيض والأسود،
يطفو الوجعُ على عيونِها. بجواري امرأةٌ ثالثةٌ صامتةٌ تتأفّفُ من صحبة فتاةِ
شقراءَ لها، على ما يبدو أنّها ابنتها. تدخلُ امرأةٌ رابعةٌ تتخيَّرُ مكانَها على
أريكةٍ معزولةٍ في الممرِّ الضّيّقِ وتبدأ بزحلقةِ أصابعِها على هاتفِها المحمولِ.
ما زال البابُ يُفتَحُ ويحشرُ نساء، نساء، الكثير من النّساء في غرفة الانتظار.
أبدأ بهوايتي: الثّرثرة، يَليها صمتٌ مُفاجئٌ أجوف. أقولُ في نفسي لعلّ هؤلاء
النّسوة شرّعن قلوبهنّ تعبثُ بها منغّصاتُ الأهواء، لعلّهنّ امتلكن أسئلةً
وجوديّةً لم يُحطن بعدُ بها وعيًا وإدراكًا، أو ربّما لم يمتلكن الجرأة الكافية
على طرحِها بلغةٍ سليمةٍ. لعلّهنّ عالقاتٍ في حقبةٍ زمنيّةٍ يرفض لاوعيهنّ
التّخلّي عنها والمضيّ قدمًا. لعلّهنّ ... مهلًا، ماذا أفعلُ أنا هنا؟
حلوى
دخلَ ولدٌ
إلى الدّكّانِ قبل أن تحضرَ أمّهُ. بحوزته ألفُ ليرةٍ فقط. طلبَ مصّاصةٍ في بادئ
الأمر. ولمّا تذكّرَ أنّه محاطٌ بهالةِ والدتِهِ، توسّعت دائرةُ المطلوباتِ لتشملَ
ما لا يساوي ما معه من المال. لم يدّخر صاحبُ الدّكّان وسيلةً ليخبرَهُ أنّه لا
يحقّ له بغير المصّاصة، لكنّ محاولاتِه لم تُجدِ، ولم يكن ليدخلَ إلى عقلِهِ
الصّغير ويفهمَ أنَّ الأمّهاتِ على كلّ شيءٍ قديراتٌ.
وردة
زرعَ زوجي شجرةَ وردٍ صارت عملاقةٍ على سورِ الحديقة. لمّا جاءَ الرّبيعُ، تفتّحت ورداتٌ لا تُحصى من غصونِها. قطفتُ منها باقةً لتزيين الصّالون وأنا في مزاجٍ فنّانة. قطفت منها ابنتي باقةً لمعلّمتِها في المدرسة. قطفَ منها اللّصُ الذي كان يسرقُ الذّرة من حقلِ جارِنا المُجاوِر. قطف منها زوّارُنا المتطفّلون بلا استئذانٍ. قطفت منها المتسوّلة يوم الجمعة وهي في مزاجٍ غاضبٍ. قطفَ منها قسُّ الكنيسةِ المقابلة وهو يمرُّ بالصّدفة، وردةً بكمّها وضعها خلف أذنَيه. صارت مع الوقتِ المكان المُفضَّلَ لقطّتنا كي تنامَ وتنعمَ بالدّفءِ تحتَها... الجميعُ يطمعُ في عطرِها الذي لا تبالي لمَن تمنحُهُ. هل هذا هو شكلُ العَطاء لأجلِ العطاء؟ هل هكذا تكون المحبّة غير المشروطة؟

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق