فضاء ثقافي يحتفي بجماليات الأدب العربي. نقدم في هارموني الحروف دراسات نقدية، نصوصا سردية (قصص قصيرة وتجريبية)، وشعرا مرهفا. نغوص في فلسفة الأدب وتحليل الخطاب لنصنع محتوى خالدا. انضم إلينا لتبادل الرؤى في واحة الفكر والإبداع.

سوناتا الجنوب: في إيقاع التجربة مع الكاتب إدريس الجرماطي

مجلة هارموني الحروف
 

في مدينة منبسطة الضوء، وُلد صوت سردي سيغدو واحدا من أكثر الأصوات حضورا في المشهد الأدبي المغربي. من ورزازات، مكان تتجاور فيه الجبال والقصبات وتتشعّب منه مخيّلة الجنوب، خرج إدريس الجرماطي ليؤسس لنفسه مشروعا أدبيا يمتد لأكثر من ثلاثة عقود، بين الرواية والقصة والمقالة النقدية، وبين الحضور الإعلامي والمشاركة في التظاهرات الثقافية عربيا ووطنيا.

في هذا الحوار، نقترب من ملامح تجربته، ومن الأسئلة التي صنعت مساره، ومن ذاكرة الكتابة التي ظلّ وفيّا لها مهما تبدّلت الأزمنة.

لنبدأ من البداية… كيف تشكّلت علاقة إدريس الجرماطي بالكتابة؟ ومتى أدركتم أن السرد سيكون قدركم الإبداعي؟


 " في البداية، أعتذر عن الإجابة التي لن تكون مباشرة، لأن السؤال أحيانا يتطلب جوابا يحاكي الجواب بسؤال يكون أعمق، لأن الذاكرة مشروخة كما لو أن ثقبا في واضحة البياض، ربما لأن الوضع يحتاج منا أن نواكب ما يجري من سلطة يقرها عقل السؤال، وليس للجواب فيه نصيب، عل المعادلة تجد اتزانا تقريبيا، في زمن شحت فيه المفاهيم، واعوجت فيه السطور…
 

ج - أتذكر أني كنت مجنونا، بل صبي ليس كما الصبيان، حملوني لكل مكان، يظنون بأني هارب مني، وكأن بي الآخر يلاحقني، تعبوا جميعا، لم يفهموا أني لست عاديا، كانت البداية، عندما صنعت شراعا ورقيا وألصقته بقارب تلازمه مربعات، كانت بوابة الإصرار، لما فيه الآن من كتابة، ولا أسميها كذلك، لأنها خربشات ليس إلا… وإن كان ذلك قدرا، فهو لا يعدو أن يكون حربا محبوبة، استمتع فيها وسط شظايا حارقة، الكتابة مسؤولية ومشقة، لكنها تظل الملاذ الأوحد والوحيد…

 

2. وُلدتم في ورزازات سنة 1970، كيف أثّر الجنوب المغربي في رؤيتكم للعالم وفي أصوات شخوصكم السردية؟

 

من قرأ لي نصا بعنوان " تدمريشت الجنة المخفية، هي القرية بالجنوب الشرقي، سيعرف الحكاية. لازلت أعجب، كيف صرت كاتبا لكل ما كتبت، رغم أني لم أكن أعرف أن خربشاتي ستصل إلى الآخر، خاصة أن قدوتي تعتبر قرية مغمورة بالمياه، وسط الأمواج توجد بها مقابر أجدادي، أظنهم الآن هياكل تأوي الحيثان، بعد أن كانت الأرض جنة، بساطها تنعم بكل النعم، اعتبرها اغتصابا، اعتبرها إقصاء، بلدة لا يمكن أن يكون اهلها كنودين، لأنها الأصل فيهم، ربما هي مصدر هذا الذي تسمونه الكتابة بي…


3. تنقّلتم بين القصة والرواية والمقالة. أيّ الأجناس تشعرون أنه يتيح لكم أعمق مساحة للتعبير؟ ولماذا؟


كل الكتابات عن الذات البشرية، لا يمكن أن نرسم لها إطارا، خاصة أن يكون الحكم من صاحبه، فالكاتب يشكل ويطرز معاناته، وليس له الحق في تأطير ما يكتب، بل الحق فقط للآخرين حوله في ذلك، هو يكتب دون تحديد، فالكتابة بي، ترفض التصنيف، ولا تخضع لقوالب من صنع بشرية تؤمن بالقلم الأحمر، وهذا سلوك الأستاذية، أرى أني أرفض هذا التشكيل العبثي، والذي يستعمله بعض النقاد تكسيرا لنصوص يرى فيها الكاتب غير ما يعتقده هؤلاء العبثيين، ممن اعطوا لأنفسهم سلطة التصحيح، بدل التوجيه…


4. روايتكم «عيون الفجر الزرقاء» حضرت في محافل عربية مهمة. كيف استقبلتم هذا الانسجام بين نصكم والوسط الثقافي العربي؟


عيون الفجر الزرقاء، لا أعتبرها رواية بقدر ما أراها ولادة إنسانية، تحاول إخراج الإنسان من نمطية التصنيف الذي يحكم على الإنسان بناء على وسطه، أو طريقة التفكير الطاغي، الإنسان عقل لا يقبل المكان كما الزمان، فالرواية كونية لا مجال فيها لمن يقبع للتأثير، وعدم إيجاد الآخر به خارجا، ربما هذا ما يميز هذا الكتاب، وهذا ايضا ما منحه مجال الانتشار بذلك الشكل الذي يراه به القارئ، مشكورا…


5. تعرّضت أعمالكم لقراءات نقدية من أسماء بارزة. كيف تتعاملون مع القراءة النقدية؟ وهل تغيّر نظرتكم أحيانا إلى نصوصكم؟


أرى أن الكتابة النقدية كتاب آخر يصوغ لصاحبه منحى يحتمل اتجاهين، إما أن يكون نقدا بناء، يعطي الفرصة للكاتب أن يعيد النظر في ما يخطه، وذلك في المنهج التركيبي فقط، وليس في الأسلوب أو شكل التفكير، فتلك سلط الكاتب، كما الشخوص التي تعبر عائلة أخرى، يبنيها بثقنيات ثابتة الوثاق..

بخصوصي أرى في النقاد الذين تعاملوا مع نصوصي، رجال أكفاء، يعتبرون نصوصي دروبا لهم، والشخوص أفراد ينتمون إلى بناءهم الإنساني، تراهم ينصحون، يرشدون، ثم يعبرون النص بمجد أخلاقي عالي، وهذا من طبيعة الحال، ينمي بي ذاكرة التوجيه، ويمنحني الشجاعة على الغوص في نصوص أخرى، بثقة ورزانة…

 

مجلة هارموني الحروف

6. شاركتم في العديد من الملتقيات والندوات داخل المغرب وخارجه. كيف ترون المشهد الأدبي العربي اليوم، وما موقع الكاتب المغربي داخله؟


الأدب فضيلة، بفضله تستطيع محاكات أفكار الكبار، وهو المعبر نحو سلالم المجد، يقوى الأدب بأن يجول بك الكون، ترحل من مجرة إلى أخرى، حتى وأنت تركن زاوية من زوايا بيتك، وكيف لا، وهو من رحل بي إلى أبعد نقطة، ليكون بذلك العالم كله بمثابة مسقط رأس، وبه تحديت الصعاب، وأمتلك القدرة على الانتشار العالمي بسهولة لم تكن في حسباني..

 

المشهد العربي، يتعافى، إنه يتنفس الصعداء، الحمد لله أنه مازال على قيد الحياة، ما جعله كذلك هي عدم القراءة، والمجاملات، فكلما حملت جينات قريبة من المجال السياسي، إلا وزدت قدرة على المشاركة، الكاتب المغربي، يناضل من أجل ان يكون، سجلت اسمي عالميا، كتبي وصلت كل القارات، هذا يكفيني لكي أفول بأن الادب المغربي بخير…

 

7. أصدرتم أعمالا متعددة، آخرها كتب قيد الطبع. هل يمكن أن تقدّموا لنا ملامح مشروعكم الإبداعي الحالي؟ وماذا تنتظرون من المرحلة القادمة؟


أطمح أن تكون لي كتب فكرية، أفكار تضاهي ما يضايقني من أفكار، فأنا من يرى في الغيم ما لا يرى، أضع نفسي بمشنقة الوجود، كي أعرف معناه، يعدني حينها أن الموت بعيد، والكتابة بقاء آخر بعد نهاية محتملة، طمعي أن يطول عمري عبر ما أدون، ف رواية ملكة ملكة الظل، عمل يعرفني كثيرا، لأني وضعت به نواة أكبر مني بكثير، أريد من هذه ال واية أن تقرأ، لأنها الكون بالنسبة لي، أطمع أيضا أن ينشر لي كتاب بعنوان من يقاضي العبث، أراه مدواة الألم الذي تعيشه نفسي، أعمال كثيرة جاهزة ومحضرة، تنتظر البروز في عالم غير هذا، عالم يؤمن بالأفكار وبالإنسان معا…


8. لكم حضور بارز في الإعلام المرئي والمسموع عربيا. كيف أثّرت هذه التجربة في علاقتكم بالقراء؟


الجميل في الكتابة أنها تجعلك ذا مقام متميز، بمجرد أن يكتشف فيك الآخر هذه الحرب المعشوقة، التي تلازم الذات والروح معا، بالكتاب لا يستطيع أحد أن يناقش الأحداث بجوارك، فالكتابة حد قاطع لكل تفاهة، تعطيك قيمة الرجولة والإنسانية، بها تعرفت على أناس لم يخطروا على بالي، بها واجهت العالم، بها أعيش وسط أمة راسخة في الرأسمال، لا إيمان لديها إلا فكر الدولار، عالم متوحش بكل المعاني…


9. تعرّض الجنوب المغربي لكم هوياتي وروحي واضح في أعمالكم. هل تعتبرون أن الكاتب يحمل دائما جزءا من أرضه مهما ابتعد؟

سؤلت ذات السؤال في عدة منابر، يكون جوابي دائما، على أن الكتاب هو ما يكتب، فلا شيء يصنع العظماء غير الآلام العظيمة كما يقال، أنا ابن الجنوب الشرقي، ابن القرية التي أخذها مني الماء غصبا، نعم إنها الأرض التي مسحت على الخريطة عمدا، علاقتي بمسقط رأسي، علاقة يتم أبدي، طفولتي عشتها بين دروب أخرى، أحس من خلالها بضياع كلي، لحسن حظي أني وجدت ملاذ الكتابة أدفق فيها مداد النسيان، علي أنسى، رغم أنه مستحيل…


10. ما الرسالة، أو «النوتة» الأساسية في هذه السوناتا الإبداعية، التي تودّون إيصالها إلى الكتّاب الشباب الذين يقرؤونكم اليوم؟


لكم أسعد كلما دعيت إلى عالم التلاميذ، كي احاورهم، أراهم أساتذة بكل معنى الكلمة، أستفيذ منهم، أبحث فيهم عني، أتذوق سطورهم العجيبة، أراها كبيرة، أحسن مني، هم يكتبون الغرابة والعجائبية، لديهم قلوب ملأ السماء، لذلك أحب عالمهم، هم أبنائي، أرجو أن أراهم في منابر علياء، أما نصيحتي لمن يحمل القلم منهم، أقول، توكل على الله أي بني، حاول البناء، والبناء هي القراءة الأعمق، ابحث لك عن كتب العلوم والفكر، تناول الفزياء والكمياء والرياضيات، في نصوصك الأدبية، فما أحوجنا إلى نصوص غير مقيدة بمعالم التعقيد، كونوا أنتم بأفكاركم، شاركوها عالمكم المثال…



ختاما نشكر الأستاذ إدريس الجرماطي على رحابة صدره ومشاركته في هذا الحوار. آملين أن يكون هذا اللقاء جزءا من المقطوعة الكبرى التي نكتبها في هارموني الحروف.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق